الطلح مكانه محاجر القرى، والغابات، وسفوح الجبال، وبطون الأودية، كيف يسمح لهذه الشجرة أن تستوطن وتستبيح الحقول والمزارع والمدرجات؟

كان يعبر الطريق الممتد بين قريته الخضراء والمدينة الوادعة، يسلك الدرب وئيدا ليرسل نظره محدقا في رفوف البساتين، وائتلاق الثمر، ومطالع الحصاد، وإكليل القطوف اليانعة، وحفيف القصب المخضل، سرت في داخله رعشة الطرب واللحون المخبأة في سلالة الطين، والكلمات المغموسة في رئة الحقول الغناء، وضفائر السنابل، وأثباج الينابع، مما حرضه على الغناء المضرج بالعشق والوله، «قال ابن عشقه وإني أعرف قرايا أبها ولكن بينها عاد فله.... ألف لفات على شانها ما كني أعرف باديه من حضاره» «قال ابن عشقه ميل» أم شيح «في حوض وليس امعدف عاد فله....كم قلت لك يا راعي البر راقب حزته لا تبتعد من حضاره»، واليوم يسلك ذات الطريق، وقد أضرم الدهر في جسده كمد الذكرى، ومخالب العمر المسفوح، حاول أن يسترجع المنسي من كراسة الجمال، ودفاتر المطر، وفاكهة الزمن الحميم، عاد إلى قريته ليلمس براحة يديه تراب الحقل، عضت قدمه عوسجة دفينة، وأدمت أصابعه شجرة معتمة من الشوك المتوحش، ثارت في داخله صرخات التفجع، ومخزون الحس المتسربل باليباب، ترى كيف تسللت شجرة «الطلح» لتحتل كل شبر من طين حقله، شجرة مستبدة قامعة لكل ما حولها من أشجار، لها جبروت وسطوة غاشمة، حاول نزعها من روح الأرض وجسدها الرطيب، قالوا: «ممنوع» بأمر الوزارة، كيف؟ الطلح يلغي «البستنة» والمساحات «المحصولية» والزراعة «المستدامة» الطلح مكانه محاجر القرى، والغابات، وسفوح الجبال، وبطون الأودية، كيف يسمح لهذه الشجرة أن تستوطن وتستبيح الحقول والمزارع والمدرجات؟

يقول الشيخ «عبدالعزيز بن باز» رحمه الله: «الشجر الذي ينفع الناس بقاؤه لا يقطع، والذي يضر الناس بقاؤه يزال». لقد خلطت «إدارة الموارد الطبيعية في وزارة البيئة والمياه والزراعة، بين الحواضن المكانية لمثل هذه الشجرة، والمسكن التقليدي لهذه الشجرة بكل مسمياتها «طلح، أكاسيا، سنط، سمر». يقول المتنبي: «ووضع الندى في موضع السيف بالعلا... مضر كوضع السيف في موضع الندى «نعم لهذه الشجرة مكانتها واستخداماتها، فقد سماها الأقدمون»شجرة الحياة«، فهي مصدر غذائي لكثير من الحيوانات الصحراوية، والحيوانات الرعوية، ويستخرج منها الصمغ العربي، وأزهارها مرعى للنحل وصناعة المناحل، وأسقف البيوت، ورغم هذه المكانة لم يسمح القدماء لها أن تستوطن مزارعهم، وتغشى حدائقهم، وتتمدد كالوحش الضاري في نواصي وأقدام حقولهم، وتتسلق بجلدها الصخري صباحات المروج، وحنطة التراب الأليف وأسوار الحصون، وذلك بفعل ما أقرته»الزراعة«من عقوبات صارمة وغير مبررة، في حال اقتلاعها وإزالتها من أملاك المواطنين ومزارعهم، والإصرار على تطبيق المادة»الخامسة عشرة«من اللائحة التنفيذية لنظام المراعي والغابات، والتي تحتاج إلى قراءة تفسيرية، وإعادة نظر في فهم النص، وتطبيقه على الواقع الزراعي، فالعقوبات تنص على»أراضي المراعي والغابات والمحميات والمسيجات والمتنزهات الطبيعية«فقط، وليس المزارع والبساتين والمدرجات الجبلية، إن شجرة»الطلح» تحاصر القرى والدروب بالشوك واليباس والأحراش الخرساء، وتبعث في النفس الكآبة، فقد أصبحت كالبثور والقروح والجدري في الوجه المملوح والحسن.