إنه لمن المسيء أن يكرر فريدمان استخدام كلمة 'صفقة'، ليس لوصف قصة تأسيس الدولة السعودية فحسب، بل لوصف العلاقات الأمريكية - السعودية نفسها. وهو وصف مثير لحفيظة كل من عمل ويعمل من أجل ترسيخ العلاقة التاريخية بين البلدين
توماس فريدمان، صاحب العمود الشهير في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، طرح في مقالته الأخيرة (الأربعاء 11 مايو 2011) رؤية سعى من خلالها إلى إيجاد روابط مشتركة بين السعودية والباكستان فيما يتعلق بتقوية موقف أسامة بن لادن آيديولوجياً ولوجستياً. واستنتجت مقالته أن (صفقات) جديدة يجب أن تعقدها الولايات المتحدة الأمريكية مع الدولتين ليكون العالم أكثر أماناً. وبقدر ما هو توماس فريدمان من الأسماء المؤثرة في الإعلام الغربي وتحمل مقالاته وكتبه العديد من الطروحات المحرضة على الجدل والتفكير وإعادة النظر في الأمور إلا أنه يرتكب بين الفينة والأخرى الأخطاء الأكثر تكراراً في الإعلام الغربي عند تناول الشأن المحلي لدولة أخرى مثل التنميط الممل والاختزال المخلّ. تكلم توماس فريدمان عن عمقٍ تاريخيّ سعودي مستنداً على مصدر واحد مختزلاً إياه في قصة تشبه قصص الغرب الأمريكي التي يتحالف فيها طرفان من أجل غنيمة. التحالف التاريخي بين الشيخ محمد بن عبدالوهاب والإمام محمد بن سعود يمكن مناقشته على مستويات فكرية وسياسية عدة، وقد تم تناول أفكارها نقداً وتمحيصاً في سياقات يتفق بعضها مع طروحات الشيخ محمد بن عبدالوهاب أو يختلف معها، ولكنها في نهاية المطاف جاءت في أطر بحثيّة أكثر عمقاً وتأسيساً منهجياً من مقالة توماس فريدمان الذي لم يأخذ في اعتباره على الإطلاق الظروف التاريخية التي نشأ فيها هذا الحلف، وكونه عبّر في نهاية المطاف عن أفكار يتفق عليها الطرفان وأتباعهما وهو بذلك يعتبر تحالفاً متوقعاً لا يزال يحظى حتى الآن بقناعة شعبية معتبرة وليس تآمراً أو تحايلاً أو (صفقة) كما عبر عنها فريدمان.
وفي الحقيقة أن اختزال العمق التاريخي السعودي في قصص قصيرة كهذه هو خطأ يمكن أن يرتكب بحق تاريخ أي دولة أخرى فلا ينتبه له إلا أهل الدولة نفسها أو الراسخون في العلوم الاجتماعية ذات العلاقة. وبنفس المنطق الذي تحدّث به فريدمان يمكننا أن نقول إن تأسيس أمريكا الحديثة لم يكن أكثر من (صفقة) بين آبائها المؤسسين بهدف التهرب الضريبي من خزينة بريطانيا. وبالتأكيد أن الحقيقة لم تكن ذلك، ولكن بوسعنا أن نختزلها إلى هذا الحد في صحف سعودية فنخرج بالآلاف من الرؤى المقتنعة التي تجد نفسها مستعدة، ثقافياً وآيديولوجياً، لقبول هذا التنميط الممل للولايات المتحدة في هذه الصورة التاريخية المبسطة، وسيتطلب الأمر جهداً تنظيرياً وتوعوياً ومعرفياً مكثفاً لوضع صورة الولايات المتحدة التاريخية مرة أخرى في سياقٍ عادل يعكس حقيقة تأسيسها الذي جاء نتيجة مخاض تنويري وسلسلة من التحولات الاجتماعية والسياسية التي تنبّه لها آباؤها المؤسسون فقرروا أن يهبوا لما هبوا من أجله. وباستطاعتنا قراءة الدستور الأمريكي أو القرارات السياسية التي اتخذها هؤلاء الآباء المؤسسون في حينها، ونقدها سياسياً وثقافياً كما نشاء، ولكنا لا نستطيع أن نختزل كل مشروعهم السياسي بكلمة (صفقة) كما فعل توماس فريدمان مع المشروع السياسي السعودي بأكمله منذ الدولة السعودية الأولى وحتى يومنا الحاضر.
وإنه لمن المسيء فعلاً أن يكرر فريدمان استخدام كلمة (صفقة)، ليس لوصف قصة تأسيس الدولة السعودية فحسب، بل لوصف العلاقات الأمريكية-السعودية نفسها. وهو وصف مثير لحفيظة كل من عمل ويعمل من أجل ترسيخ هذه العلاقة التاريخية بين البلدين منذ ذلك اللقاء التاريخي بين الزعيمين روزفلت والملك عبدالعزيز في البحر الأحمر، من سياسيين ودبلوماسيين ورجال أعمال وطلاب ومثقفين وناشطين وباحثين وصحفيين. وهي علاقة أقل ما توصف به أنها إستراتيجية ومنتجة، وقطف ثمرتها الشعبان معاً مع الاحتفاظ بالمعيار النسبيّ لحجم تلك الثمرة قياساً على حجم الدولتين اقتصادياً. الآلاف من السعوديين الذين درسوا في أمريكا منذ خمسين سنة، والآلاف من الأمريكيين الذين عملوا في السعودية منذ سبعين سنة أيضاً يختلفون مع فريدمان الذي اختزل هذه التجارب المصيرية في حياتهم والتي وقعت على مفترق العلاقة بين الدولتين على أنها (صفقة) ليس إلا وليست جسراً إستراتيجياً عملاقاً. صحيح أن العلاقة بين الدولتين شابتها اختلافات عريقة على قضايا حرجة إلا أنه لا أدلّ على رسوخ تلك العلاقة واحترام طرفيها لها من أنها استمرت في التفاعل الإيجابي رغم تلك القضايا والخلافات التي تبدأ من قضية فلسطين وتنتهي بالأحداث العربية الراهنة، مروراً بحرب فيتنام، والجهاد الأفغاني، وتأسيس أوبك، وتحرير الكويت، والقواعد الأمريكية، وأحداث سبتمبر، واحتلال العراق، ومعتقل جوانتنامو، وغيرها. كلها قضايا خطيرة يمكن أن تقصم ظهر العلاقة بين أي دولتين أخريين لولا وجود قناعة راسخة بين الطرفين أن ما يمكن تحقيقه من هذا التعاون أكبر بكثير من تلك الخلافات السياسية المتوقعة بين دولتين تحملان توجهات سياسية وبنى ثقافية مختلفة.
النقد الأمريكي الجاد لأي مشروع سعودي هو شأن مرحّب به، ليس لأن الدول التي تعمل بجدية على مشاريعها التنموية والثقافية تجد في النقد مادةً خصبة للإصلاح ورؤية محايدة للتقويم، ولكن لأنه هذا هو دأب الدول الصديقة أصلاً. ولا يوجد دولةٌ انتُقدتْ في السعودية على جميع المستويات أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي لا يمكن أن نبيح لأنفسنا ما لا نبيحه لغيرنا. ولكنا نفرّق بوضوح بين النقد المرتكز على رسوخ هذه العلاقة بين البلدين وبين ذلك الذي لا يراها إلا (صفقة). بالتأكيد أن فريدمان لا يمكن أن يستخلص من الصفقات سوى تلك المعادلة المختزلة والنمطية ما دام ينطلق من فهمه لها كصفقة أساساً، وهذا مما يؤسف عليه، كون طروحاته في مجالات أخرى مثرية وهامة، وكنا نتمنى أن تتناول إحداها السعودية بشكل أكثر منهجية وأعمق رؤية.