علاقة العرب والأعراب منذ القدم بالدراما وجماليتها علاقة منعدمة... ورغم أن القرآن الكريم احتوى على مادة قصصية وفيرة؛ إلا أنهم أبداً لم يحولوها إلى دراما، ولم يمثلوا مشاهدها، بل اعتمدوا القص شفهياً لا فعلياً

علاقة الأعراب والعرب بالفن المسرحي متوترة منذ الأزل، وليست وليدة اليوم، ولم يكن الإسلام يوماً سبباً في هذا التوتر كما يظن الكثيرون؛ بل ثقافة الصحراء الجافة التي عاشها العرب قديماً، والترحال بحثاً عن الكلأ والماء دون الاستقرار؛ حالت بينهم وبين الخيال الدرامي المتنامي في بيئة مستقرة وخضراء، محرضة على توليد الأحداث، وابتداع الشخصيات، وتطوير عقدة الصراع بينها، ثم بقاء ما عززته هذه الثقافة الصحراوية من عادات وتقاليد تستنقص التمثيل ـ كما تستنقص المهن والصناعة ـ وتعتبر العاملين فيه كمهرجين بعد الإسلام، رغم الحضارة التي وصلوا إليها آن ذاك، ورغم أن القرآن الكريم احتوى على مادة قصصية وفيرة إلا أنهم أبدا لم يحولوها إلى دراما، ولم يمثلوا مشاهدها؛ بل اعتمدوا القص شفهياً لا فعليا؛ فهم ظاهرة صوتية كما وصفهم عبدالله القصيمي؛ ولهذا تفوقوا في علو النغمة الخطابية؛ شعراً ونثراً، وعلى الرغم من وجود الآلهة لدى قدماء العرب وتعددها، ومعرفتهم بالجن والشياطين وأساطيرها ونشاط الكهان فيها قبل الإسلام إلا أن خرافاتهم وآلهتهم المتعددة؛ لم تلهمهم لفعل درامي ومشاهد تمثيلية؛ ولم تنمُ كمادة درامية خصبة كما حصل لدى الإغريق والرومان والهنود والصينيين وغيرهم، فجفاف الصحراء سلبهم قدرة الوعي في تذوق جماليات الفن المسرحي، ومع ذلك يُصر بعض المثقفين العرب والباحثين المعاصرين على أن العرب قديما وُجدت لديهم ارهاصات مسرحية! وراح بعضهم يلوي عنق بعض النصوص التراثية لإثبات النظرية، لدرجة أن هناك من اعتبر رسالة الغفران لأبي العلاء المعري نصا مسرحيا، إلا أن هذه النظرية ما هي إلا نتاج عصبية للثقافة العربية. فالعاطفة تتحكم كثيرا بنا، إذ كيف نعترف بقصور العرب وبلادة إحساسهم بتذوق فن كالمسرح؛ وكيف لا يعرفونه قبل وبعد الإسلام إلا منذ قرن ونصف القرن تقريبا؟! خاصة أنه دليل تحضر الشعوب الإنسانية من قبل ميلاد المسيح عليه السلام! والأكثر أهمية؛ أن العرب حتى اليوم لا يكفون عن رفع شعارهم لتبرير كسلهم؛ في أن مؤلفات المسلمين وعلومهم هي بذرة عربية أولى للحضارة الإنسانية الغربية التي نعيشها اليوم، بل هناك من التسطيح الفكري من يفكر أن علينا أن ننشغل بنشر الإسلام والدعوة، والتكاثر، فيما الغرب سخرهم الله لخدمتنا في إنتاج العلوم والتكنولوجيا! تبريرات عمياء فعلا! والصحيح أن المسلمين خلال القرون الوسطى التي كانت فيها أوروبا تغرق بالجهل والظلمات، وتحريم العلم والفلسفة؛ كان المسلمون ينهضون بالعلم والتأليف، حين اعتنوا أشد عناية بترجمة آثار ومؤلفات الأمم الأخرى منذ العصر الأموي، والحقيقة: أنّ لهم الفضل في حفظ التراث الإنساني العلمي من الضياع؛ حين كانت الكنيسة تحرق الكتب والعلماء، لكن علينا إدراك أن كثيرا من هذه العلوم طورها المسلمون، وابتكروا فيها بعد وصولها إليهم عبر الترجمة النشطة آنذاك، وقد كان قبلهم آخرون تناقلوها عبر قرون عن آخرين وآخرين.. وهكذا هي العلوم والفنون بطبعها ينبغي أن تترفع عن التجنيس، لأنها نتاج إنساني بشري متطور.
وأعود إلى المسرح والعرب.. الغريب أنه في ظل نهوض المسلمين بالفكر والمعرفة عبر الترجمة، واطلاعهم على ثقافات الأمم الأخرى، وإلمامهم بالمترجمات اليونانية (الإغريقية) وآثار فلاسفتها، وبذلهم جهداً كبيراً في تفسيرها وشرحها ونقدها؛ كانوا قد اطلعوا على كتب أرسطو وخاصة (فن الشعر) الذي تحدث فيه عن الدراما اليونانية، لكنهم فيما يبدو من ترجمتهم لأرائه، ونقدها حول الدراما وفق معطياتهم الثقافية لم يفهموا كلامه، وهو سبب رئيس لعدم معرفة العرب للدراما، أو العلوم الأخرى؛ فحين نعود لأول ترجمة عربية للكتاب، نجد أبو بشر متى بن يونس (توفي940م) قام بها وكانت حرفية نتيجة ضعف المترجم في العربية، بجانب ضعفه بالأدب اليوناني، إذ ظنّ أن أرسطو يتحدث عن الشعر الذي ألفوه، وعرفوه، وهو المديح والهجاء، فترجم تراجيديا بـالمديح، وكوميديا بـالهجاء، وهو ما اطلعت عليه بنفسي في ترجمته؛ أما ابن سينا الطبيب والفيلسوف والعالم المعروف أيضاً في كتابه (الشفاء) فاستعمل في تعليقاته كلمتي: (طراغوذيا) و(قوموذيا) كما وردتا في النص الأصلي لأرسطو، دون معرفة ماهيتهما، الأمر الذي لم يمكنه من إيجاد تسمية مناسبة مقابلة لهما في العربية، وحتى الفارابي استخدم طراغوذيا وقوموذيا كابن سينا، قاصداً بهما المديح والهجاء، أما الفيلسوف ابن رشد فاستخدم في تلخيصه لكتاب أرسطو كلمتي متى بن يونس، وهما المديح والهجاء أثناء حديثه عن التراجيديا والكوميديا؛ وحين رجعتُ أيضا لمعجم لسان العرب لابن منظور ـ معجمي المفضل لأنه أضخم المعاجم العربية وأكثرها دقة ـ حاولت البحث عن كلمة المسرح أو المسرحية، فوجدته لا يتناولها بالمفهوم الذي تمّ التعارف عليه لدى الأمم السابقة، إذ أرجع المَسرح بفتح الميم إلى معنى مرعى السرح، أي الموضع الذي تسرحُ إليه الماشية بالغداة للرعي، وهو من سَرح، تسرح، سروحاً: أي سامت، وهكذا يمضي ابن منظور في شرح معاني الكلمة دون أن يأتي ذكراً للمسرح أو المسرحية، ولا كلمة دراما نهائياً، ولم يختلف عن لسان العرب معجم القاموس المحيط للفيروز آبادي، وهذا دليل قاطع على جهل العرب بالمسرح.
إذن علاقة العرب والأعراب منذ القدم بالدراما وجماليتها كانت علاقة منعدمة، فهم ظاهرة صوتية الشعر والخطابة، لا ظاهرة فعلية الدراما التمثيلية، وما أشبه اليوم بالأمس.