تختزل كل الأبعاد الممكنة التي يمكن أن تنهض من خلالها أمة في نفق واحد يقف الخصم الأزلي في نهايته.

نوعان من الهزيمة المعنوية هما الأكثر شيوعاً في مجتمعاتنا العربية. (تعظيم) إنجاز الآخر بما يقتضي استحالة اللحاق به أو التفوق عليه، و(تحجيم) إنجاز الآخر والتقليل من شأنه بشكل غير منطقي ولا مبرر. وإذا سحبنا هذين المثالين على أكثر ميادين الهزيمة المعنوية اتساعاً في مرحلتنا الحالية، وهو المقارنة بين العالمين الغربي والعربي، فإننا نكاد نلمس حضورهما في كل مستويات خطابنا الاجتماعي من الحوارات العابرة وحتى الدراسات الجادة. ورغم تناقض هذين النوعين من الهزيمة المعنوية ظاهرياً إلا أنهما ينبعان من نبع واحد في نهاية المطاف وهو الشعور الطاغي بتفوق الآخر، ثم يتفرعان إلى مجريين مختلفين عندما يتعلق الأمر بردة الفعل إزاء هذه التفوق: إما بالاعتراف المستسلم أو الإنكار المتشنج.
وكلاهما - الاعتراف أو الإنكار - لم ينتجا عن مقارنة موضوعية بين حضارتين تلتزم معايير محايدة، بل كانا ناتجاً محضاً لحالة شعورية شخصية تكتنف الفرد. فالهزيمة المعنوية لا تكون (معنوية) أصلاً لو لم تكن قد تشكلت داخل شخصية الفرد، وأسهمت في تمكينها عوامل نفسية وثقافية مختلفة تصوغ مع بعضها تصورات الفرد الشخصية حول معنى الهزيمة وطبيعة الآخر وحجم الفارق وردة الفعل. انفراد الحالة الذاتية وحدها بإجراء هذه المقارنة ينقض موضوعيتها، لأن النفس تنزع للمقارنة بالطريقة التي تريح الضمير الأيديولوجي أو المكون الثقافي أو النزعة السلوكية أو الحالة النفسية لهذا الفرد، فتكون النتيجة في الغالب ضرباً من الوهم وشططاً عن الواقع. فمنطلقات هذا الفرد عند ممارسته للهزيمة المعنوية هي التخفيف من وطأتها عليه فحسب، اعترافاً أو إنكاراً، وليس مقاربة الصواب أو طلب الحقيقة.
يكاد يكون هذان النوعان من الهزيمة المعنوية بنفس درجة الشيوع قياساً على الملاحظة المباشرة لقناعات أفراد المجتمع بمختلف أطيافه ودرجاته. تسمع مقولة لن نبلغ مبلغهم إلا بعد قرن من الزمان، بنفس القدر الذي تسمع به مقولة إنها حضارة مادية هشة بدون أي أساس أخلاقي أو اجتماعي. ولربما سمعت المقولتين في نفس المجلس، ولربما - وتلك من انفصامات الذات الثقافية - تسمعهما من نفس الشخص في سياقين مختلفين. الذي يجمع بين النوعين في الخطاب المحلي العربي هو أن كليهما لم يقم وجهة نظره على قياس دقيق للواقع، بل اعتمد على خليط من المقارنات السطحية المباشرة لا تأخذ السبب والنتيجة في الاعتبار بقدر ما ترتكز على عقد الذات في تفسير الآخر. والذي يفرق بينهما أن الأول يحمل إشارات التبعية والخنوع والثاني يحمل إشارات الصمود والعزة، ولهذه الإشارات أثر على سلوك الفرد في تعامله مع الآخر المتفوق.
إلا أني أزعم أن هذين النوعين من الهزيمة المعنوية يكيلان نفس الضرر الحضاري للمجتمع. فكلاهما يحمل قطبية في التعامل مع الآخر باعتباره خصماً أزلياً إما أن نهزمه أو يهزمنا، مما يكرس خللاً مستمراً في التعالق معه. والحقيقة أن في ذلك استنزافاً كبيراً لمعنويات المجتمـع عندما يفترض في كل آخرٍ متفوق خصماً.
هكذا يأخذ السعي البشريّ الذي هو حتمٌ على كل أمة دائماً شكل معركة، وهكذا يغيب عن عامة المجتمع أن كل تفوق هو ثمرة يمكن للجميع زراعتها بدلاً من الاقتتال عليها، وهكذا تختزل كل الأبعاد الممكنة التي يمكن أن تنهض من خلالها أمة في نفق واحد يقف الخصم الأزلي في نهايته. نقع في هذه المآزق المضللة بسهولة، لأن الانغماس في الهزيمة المعنوية أسهل من النهوض بالعمل الجاد. والاستسلام لتفوق الآخر أو إنكار هذا التفوق كلاهما مثبط للسعي، الأول لانعدام الأمل والثاني لانعدام الحاجة.
لدى المصابين بالنوع الأول من الهزيمة المعنوية يقين بأن التفوق مكون أساسي لدى الآخر ولا يمكن أن تتبدل الأدوار سوى بمعجزة. فمهما تقدمت إسطنبول وتدهورت لشبونة تظل البرتغال أرقى، ومهما صعدت دبي وهبطت أثينا تظل اليونان أقوى. ركونه إلى أن تفوق الغرب قدر لا يمكن تبديله، يجعله عاجزاً عن ملاحظة التغيرات التي يمكن أن تحدث في الصورة أو أنه يرفض ذلك. فالمستسلم لا يمكنه أن يعود إلى الميدان مهما كان الحافز، ويرفض أن يخوض جولة جديدة ولو كانت حظوظه أفضل. ولدى المصابين بالنوع الثاني من الهزيمة المعنوية يقين بأن التفوق حق من حقوقهم الأصيلة ولو اشتبه الناس أن غيرهم قد ظفر به. مهمتهم الأساسية بالتالي هي دحض هذه الشبهة عن طريق التعصب للثقافة والتعالي على الآخر. هذه المهمة المتعصبة إذن تصطدم بالشاهد الواقعي لأفضلية الآخر فتفتش عن تبريرات عديدة تخفف من وطأة هذا التصادم، إما بنقل أرض الميدان من الحاضر إلى الماضي عندما كان التاريخ أجمل أو إلى المستقبل حيث الوعد الهلامي بالنصر القادم. ومن التبرير أيضاً تقسيم التفوق الحضاري إلى ماديّ وأخلاقي، فيبالغ في طمس المنجزات الحضارية بالكربون الذي ينفثه عادم المحرك الاقتصادي، وينفي الحقيقة الاجتماعية أنه لا حضارة يمكن أن تقوم بدون هرم أخلاقي رصين وعرف اجتماعي راسخ، ولكن اختلاف هذا الهرم وذلك العرف عما يؤمن به مجتمعه من أهرام وأعراف يجعله يقيم الآخر بمعيار الحق والباطل بدلاً من معيار الاختلاف والتعدد.