ظهور أي تيار في المجتمع يعني أنه يملك مكوّناً فكرياً مقنعاً لشريحة من أفراده. فلا وجود لتيار اجتماعي شاذ أو تغريبي أو تشريقي لأن مجرد تشكله في رحم المجتمع يعني أنه يحمل جيناته الوراثية بالضرورة

تحليل السلوك التياري لكل من التيارين الإسلاموي والليبرالوي يقودنا إلى التشابهات أكثر من الاختلافات. فسلوك التيار غالباً هو نفسه بغض النظر عن قاعدته الفكرية. ولو لم يمارس التياريّون نفس السلوك لما شكّلوا تياراً في الأصل ولظلوا مجرد حركات فكرية عائمة يتفقون على شؤون ويختلفون في أخرى. مصدر الاختلاف بين التيارات هو القاعدة الفكرية وليس السلوك الاجتماعي. ومن هنا فإن محاولة التنقيب وراء المتشابه من سلوك التيارين يصب في خانة التحليل السوسيولوجي؛ بينما التنقيب وراء المختلف منها يصب غالباً في خانة التحليل الفكري والفلسفي. هذا يعني أنه عندما نهمّ بدراسة سوسيولوجية فإن تتبع السلوك التياري بوصفه ظاهرة من ظواهر المجتمع يتقدم في الأهمية على تحليل الأفكار والفلسفات والمبادئ التي يرتكز عليها التيار كمرجعية. ولذلك فإن تحليل سلوك التيار الإسلاموي ونقده لا علاقة له بالمنطلق الأساس له كالدين أو المذهب؛ مثلما أن تحليل سلوك التيار الليبرالوي لا علاقة له بالجذر التاريخي والثقافي لنشوء الليبرالية غرباً أو شرقاً. وبالتأكيد فإن كل تيار يسعى لتحصين نفسه ضد النقد عن طريق ترهيب الناقد واتهامه بمعاداة المنطلق الفكري رغم أنه لم يتعرض في نقده سوى للسلوك التياري. وكم من محلل اجتماعي ناصبته التيارات العداء لأنه انتقد سلوكهم فظنوا أنه يعارض مبدأهم. ولعل هذه التفرقة بين المبدأ والسلوك تبرر لنا استخدام وصفيْ الإسلاموي/الليبرالوي للإشارة إلى التيار بوصفه ظاهرة اجتماعية مرحلية بدلاً من الإسلامي/الليبرالي للإشارة إلى الجذر الفكري والمرجعية الفلسفية للتيار. فقد يزعم مئات التيارات الاجتماعية والفكرية حول العالم تفردها بتمثيل جذر فكري واحد - كالإسلام مثلاً - وتطالب باحتكار المسمى تماماً مثلما أن مئات التيارات تدّعي وصلاً بالليبرالية في صورتها الأنقى والليبرالية لا تقرّ لهم بذاك من واقع سلوكهم ومواقفهم. من هذا المنطلق فإن إطلاق مسمى التيار الإسلاموي بدلاً من الإسلامي لا يقصد به التشكيك في استحقاق التيار لأن ينسب نفسه للإسلام المطلق ولا يهدف إلى إجراء هذه المحاكمة أصلاً بقدر ما يسعى إلى احتواء جميع التيارات الاجتماعية التي تنسب نفسها لنفس الجذر تحت مجهر نقديّ واسع بغض النظر عن اشتراكها في المرجعية الفكرية أو تباينها فيها. فالغرض السوسيولوجي هنا مرة أخرى هو تحليل التيار كظاهرة اجتماعية وليس وزنه في كفتي الحق والباطل والخير والشر. بالتأكيد أن هذا لا يعني أن الدراسة السوسيولوجية غير معنية برصد الضرر والنفع اللذين يجرّهما (سلوك) هذا التيار على المجتمع لأن هذا من صميم النقد الاجتماعي. بل وللناقد الاجتماعي أن يلجأ إلى الجذر الفكري للتيار في محاولة لتفسير سلوكه ولكن ليس له أن يجعل هذا الجذر محوراً للنقد والتحليل وإلا خرج بدراسته إلى مجال بحثيّ آخر. هذا يعني أيضاً أن تتبع متشابهات التيارين ليس محاولة لتهميش فروقاتهما الجوهرية وبالتالي تسفيه من يمارس انتماءه لأي منهما اختياراً. (ونستثني هنا من يتم إلحاقهم بالتيار دون قبولهم من باب التصنيف والتخرص والقولبة).
إن ظهور أي تيار في المجتمع يعني أنه يملك مكوّناً فكرياً مقنعاً لشريحة من أفراده. فلا وجود لتيار اجتماعي شاذ أو تغريبي أو تشريقي لأن مجرد تشكله في رحم المجتمع يعني أنه يحمل جيناته الوراثية بالضرورة. ويجب هنا أن نفرق بين انتقال الفكرة بين ثقافة وأخرى وبين انتقال التيار من مجتمع وآخر. الأفكار عابرة للحدود ولكن التيارات ليست كذلك. بالإمكان استيراد أفكار فولتير في السعودية ووسمها بالليبرالية ولكن فولتير سيظل فرنسياً في نهاية المطاف ولا يمكن له أن ينخرط في تيار اجتماعي سعودي. بالإمكان أيضاً أن يتجاوز الفكر السلفيّ حدود الجزيرة العربية إلى أصقاع الأرض ويصل إلى إندونيسيا ولكن هذا لا يعني أن التيار الإسلاموي الإندونيسي هو نسخة اجتماعية من نظيره السعودي؛ حتى وإن استقى كل منهما من نفس المرجعية. هكذا، فإن محاولات التيار الإسلاموي في خضم الصراع أن يفقد التيار الليبرالوي شرعية وجوده في السعودية بحجة التغريب هي محاولة لا يؤيدها علم الاجتماع، وبوسع المجتمعات الأخرى أن تستخدم نفس الحجة لإفقاد أي تيار إسلامويّ شرعية وجوده فيها.
الأفكار بلا وطن، وهي ناتج لجهد إنساني مشترك، ولذلك تنتقل من تاريخياً حضارة إلى حضارة مثلما تسافر جغرافياً من بلد إلى بلد. ومن هنا يمكن القول إن فكرة ما طارئة أو غريبة أو ليست ابنة المكان، ولكن تبنّي شريحة من هذا المجتمع لهذه الفكرة هو مرهونٌ باستعدادهم الثقافي وحاجتهم الفكرية ورغبتهم الاجتماعية لاستقبالها وتبنيها والعمل بموجبها. هذا الاستعداد الثقافي والفكري والاجتماعي نابع من صميم المجتمع حتى وإن كانت الفكرة وافدة من خارجه، وبالتالي فهو ابن المكان ومعجون بصلصال المجتمع الأصلي. تماماً مثلما أننا قد نستقدم السيارة ونؤمن بكونها صنيعة مكان آخر، ولكن المواطن الذي يقودها إلى مآربه ومبتغاه وحلمه هو ابن المجتمع، واختياره لهذه السيارة تحديداً نابع عن قناعات مستمدة من صميم ثقافته المحلية بأنها تناسبه وتبلّغه مراده. وبالتالي تكون الرحلة برمتها رحلة محلية ولا يمكن نفي علاقتها بالمجتمع بغض النظر إلى أي مآل تقوده.