لا بد أن يحتوي الهيكل التنظيمي لكل أمانة وبلدية على إدارة مهمتها تقويم أداء الأجهزة التي تخدم ضمن إطار هذا التنظيم، وتقدم المرئيات حيال كفاءة توزيع الخدمات وأولوية المشاريع والخدمات حسب النمو السكاني

أمرّ كل أسبوع تقريباً بجوار موقع يمر به الطريق السريع، وهو خارج النطاق العمراني للمدينة. تسعدني رؤيتي للطريق مرصوفا بالبلاطات الحمراء التي أصبحت موضة هذه الأيام لدى جميع البلديات. ويسرني أن أرى أن الشارع تحفه الأشجار من الجانبين, إضافة للإضاءة. يشوه هذا المنظر قيام العمال بري هذه الأشجار والحديقة الغناء الواقعة على أطراف الجسر الذي يعبر فوق الشارع بمياه صهريج. السبب الواضح هو أنه لا توجد شبكة مياه, ومن البديهي ألا تكون هناك شبكة مياه خارج المدينة.
اجتهاد تنفذه البلدية خلال الفترة الحالية. وهو إنجاز لا تدعمه بنية تحتية تضمن استمراره, مثله مثل الكثير مما ينفذ لدينا, رئيس البلدية القادم سيقول لماذا الهدر؟ أليست شوارع المدينة أولى؟، هذا طريق خارج المدينة وحتى الرصيف الذي وضع لن يستفيد منه أحد. سأكون أنا مع رأي رئيس البلدية الجديد، لأنه الجديد، ولأن ما يقوله هو عين الصواب.
المعروف أن تنظيم تنمية المدن والمناطق المأهولة بالسكان يبني تركيز تخطيط الخدمات على الكثافة السكانية، وتقدم الخدمات للكل دون تفضيل أو منة أو مطالبة حتى. إن رصف شارع في الخلاء يعني بالضرورة أن جميع الشوارع داخل المدينة مرصوفة، وأن المواطن يستخدم شوارع جيدة السفلتة، كما يعني أن الطرقات مشجرة ومروية من خلال شبكة قائمة ومنفذة بناء على برنامج زمني يتفاعل مع حركة النمو العمراني والبشري، أما إذا كانت شوارع المدينة بدون أرصفة وهي عبارة عن حقول من المطبات والإسفلت المهترئ ويحتاج السائق فيها لإضاءة الأنوار العالية ليرى ما أمامه وحوله, فإن إعطاء الأولوية لتطوير الطريق السريع هو من قبيل الاجتهاد الذي لصاحبه أجر واحد فقط.
الحالة تتكرر عندما يدخل الواحد منا متنزها في حي راق، ويقارنه بمتنزه أو حديقة في حي من أحياء الطبقة الفقيرة. أو عندما نقارن بين متنزه بني حديثاً ومتنزه بني قبل عشر أو خمس عشرة سنة. يميل المسؤول إلى الانحياز لإنجازاته وإهمال إنجازات من سبقوه. وهذا من العيوب التي خلفتها أساليب الإدارة غير المبنية على الأنظمة، وهو ما يسمى شخصنة الإنجازات في قاموسي. فإنجازات المسؤول هي في الواقع مجموع إنجازات من يعملون معه. كما أن ما ينفذه رئيس مرفق اليوم, يفترض أن يكون خرج من مرحلة التخطيط والتنظيم والإعداد والإدراج في الميزانية قبل أن يعين المسؤول في مكانه، فإنجازات المسؤول لابد أن تأخذ وقتها في مرحلتي التخطيط والتصميم، حتى لا تخرج علينا بشكل اجتهاد غير مأجور.
نفس الكلام ينطبق على مكونات تنموية وخدمية أخرى، كالمراكز الصحية والمدارس، مع فارق كون مشكلة المدارس تكمن في المكونات من الداخل والتوزيع غير المبني على الكثافة السكانية وسرعة النمو في الأحياء. أما المراكز الصحية وتباين خدماتها وإمكاناتها فتحتاج لمقال خاص.
إذا كان هذا الحال في المدينة الواحدة فما بالك بالفروق بين المناطق والمحافظات والمراكز؟ هناك فروق كبيرة، بل خطيرة بين مستويات التنمية عندما ننظر للمملكة بشكل عام. تدخل مدينة مثل حوطة بني تميم أو طريب، تحس أنك تسير في شوارع دولة من العالم الأول خاصة التي يمر بها المسافر مثلي. الإضاءة والأرصفة، والخدمات، وساحات النشاط التراثي والثقافي والمتنزهات والأسواق تتميز في التنظيم والتصميم، حتى إنني لم أشاهد كجمال بوابة مركز طريب ومبنى البلدية فيها بين كل المراكز بل والمحافظات التي في حجمها وتعدادها.
تظهر محافظات ومراكز بل وعواصم مناطق أخرى بشكل لا يليق بحجمها وأهميتها. تنحصر العناية بمواقع معينة محدودة لا يستفيد منها عامة الناس، حتى إنك في بعض المدن لا تجد أي مركز خدمة قريباً منك، برغم وجوده في قرى في مواقع أخرى. هذا أدى لازدهار تقديم هذه الخدمات من القطاع الخاص. كل واحد منا يستطيع أن يعد ما لا يقل عن خمس مدن رئيسية تعاني من سوء توزيع الخدمات أو عدم وجودها في المكان الملائم. أثناء سفري من الرياض إلى أبها قدت السيارة في تحويلة داخل إحدى المحافظات.. الشارع يبدو جديداً بشكل عام، بل أكاد أجزم أنه استلم خلال هذا العام، لكن الإسفلت كان عبارة عن حالة من التموج الشديد وكأنني أقود في عرض البحر. كيف تم استلام هذا المشروع ؟! أعود هنا لموضوع مؤرق، وهو الإحصاء. كيف توزع ميزانيات البلديات؟ هل هي مبنية على تعداد السكان، أم على مساحة المنطقة المخدومة، أم على القرب والبعد عن عاصمة المنطقة؟ هل للمجالس البلدية والمحلية دور في توزيع ميزانيات الأمانات والبلديات، أم إن المطالبة والعلاقات ما تزال تحكم توزيع الاستحقاقات؟ لابد أن تكون هناك قاعدة منطقية وعادلة توزع الاعتمادات والمشاريع بناء عليها بغض النظر عن عمليات التفاوض والمناقشات التي يمكن أن تنحصر في جزئيات بسيطة وليس في الكل.
لا بد أن يحتوي الهيكل التنظيمي لكل أمانة وبلدية على إدارة مهمتها تقويم أداء الأجهزة التي تخدم ضمن إطار هذا التنظيم، وتقدم المرئيات حيال كفاءة توزيع الخدمات وأولوية المشاريع والخدمات حسب النمو السكاني. هذا القسم أو الإدارة يهتم بالتوازن التنموي في قطاع المسؤولية وضمان أن تحصل جميع مكونات المنطقة أو المحافظة على حقوقها من المشاريع والخدمات والتنمية. كما يمكن أن يكون هناك تنظيم مشابه في وزارة الشؤون البلدية والقروية يعنى بإيجاد حدود دنيا لابد من توافرها في جميع المناطق والمدن والمحافظات والمراكز، كل بحسب وضعه الإداري والسكاني.
إذا دخلت أصغر مدينة في أي ولاية في الولايات المتحدة، أو أصغر بلدة في أي دولة أوروبية، فإنك بمجرد دخول البلدة أو المدينة والسير في شارع من شوارعها تعرف الدولة التي تنتمي إليها. أتمنى أن أرى مثل هذا التوازن في وطني.