ملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين وعميد الحكام العرب، هذه الألقاب التي توحي بحقبة ما قبل التاريخ منحها القذافي لنفسه والتي كان يطالب الرؤساء العرب بتقديمه بها في المناسبات السياسية العربية هي مؤشر صغير جداً لحالة القذافي. وقد حكى لي زميل عن قصة حدثت قبل عدة سنوات في ليبيا حيث أصيب معمر بنوبة غضب لشأن داخلي لم يسر على هواه فقرر معاقبة الشعب بقطع البث عن قناة ليبيا المحلية لمدة أسبوع واكتفى بعرض أسفل جزمته في وجه الشاشة بحيث من يشاهد التلفزيون يرى جزمة القذافي في وجهه, ظل هذا الوضع لمدة أسبوع حتى رضي وأعاد البث. مثل هذه الأحداث قد تصيب أكثر المجتمعات البشرية بحالة من الاكتئاب والإحباط هي فيض من غيض من قصص القذافي التي تشي بحالة عقلية غير سوية بتاتاً. وأنا على يقين من أن استخبارات الدول الكبرى على دراية بتصرفاته. ومع ذلك فهذا الرجل كان يقف في أعتى المحافل الدولية كمجلس الأمم المتحدة الذي يدار برجال يصنعون قرارات تدخل في شؤون كل دول العالم, قرارات قد يصل تأثيرها لداخل منازلنا, ليستمع له زعماء ورؤساء دول, بعضهم يعتبر من أكثر ما أنتج مجتمعه ذكاء ودهاءً, ليلقي خطاباته المليئة بالتهريج دون أن يجد صوتاً واحداً يسكته أو ينتقده مع وجود اتفاق أو معرفة ضمنية على أن أجهزة الإدراك لديه خارج التغطية.
فكيف سمح له رؤساء الدول بالوقوف خلف المنصات في أكثر المحافل احتراماً ومهابة؟ فهل كون البروتوكولات تفرض على الجميع الانصياع لها مبرر منطقي للتعامل مع شخص غير طبيعي كشخص طبيعي, إذا كانت البروتوكولات نفسها وضعت لتكون منطقية ولفائدة المجتمعات.
عدا أن هذه البروتوكولات نفسها ليست أمراً حتمياً أو طقساً دينياً لا يمكن تجاوزه, وبالتالي فوجودها لا يفسر كيف يجلس إنسان عاقل لمدة ساعة يستمع فيها لكلمة تلقى من رجل غير سوي.
وحتى مجرد فكرة شرعيته الدستورية كممثل للشعب ليست كافية لتجعل العالم يتجاوز لا أهليتها, فلو افترضنا جدلاً أن شعباً ما اختار زرافة لتمثله, فهل سيقبل رجال السياسية أن تقف بين أيديهم زرافة بحجة أنها تمثل الشعب؟ فهل قبول اختيار الشعب لا حدود له؟
برأيي أن وضع القذافي يوحي بأنه لم يكن وحده المجنون في عالم البشر . فقد صادف أن قرأت جزءاً من موسوعة تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي التي كتبت ربما من عشرين سنة. كان هذا الجزء عن الحرب الطاحنة بين قبيلتين في اليمن هما حاشد وبكيل، لأفاجأ بعدها بفترة بتغطية إخبارية عن حرب حالية بين نفس القبيلتين بعد مرور أكثر من ألفي عام! فهل من الطبيعي أن تستمر مجموعتان بشريتان في نفس البقعة دون أن تختلط وتضيع ملامحهما, بل وتحافظان على عداوتهما لآلاف السنين؟ أتصور أن الإنسان المتفاخر بعقله لديه سلوكيات لا تصنف إلا في خانة الجنون. بدءاً بالحروب وعبادة الآلهة التي لا يمكن رصد نفعها أو ضررها، وانتهاء بالتعامل مع صاحب مقولة (ديمو كراسي) وزنقة زنقة التي يعيشها الآن كرئيس دولة.