ننفق في بلاد الغرب عقودا دون أن نستثمر ما وصلوا إليه من تقدم، غير مدركين أن 'الحكمة هي ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها'.. فكم هو مخيب للآمال أن نقضي ردحا من الزمن خارج أوطاننا دون أن نؤثر ونتأثر
00فوجئت قبل نحو أسبوعين أثناء مرافقتي لزوجتي في جناح التنويم بقسم الولادة في مستشفى بمانشستر في بريطانيا، بنقاش حاد في السرير المجاور، الذي يفصلنا عنه ستارة، بين قابلة وزوج إحدى المنومات في القسم. كانت القابلة تحاول إقناع الزوج المسلم بالموافقة على إجراء عملية قيصرية لزوجته على يد استشاري بسبب وضعية الجنين، التي تتطلب تدخلا جراحيا، في ظل عدم توفر استشارية مناوبة، ولاسيما أن حالتها لا تحتمل التأجيل؛ لأن التأخير قد يعرض الأم والجنين للخطر، لكن الزوج كان يرفض بشدة مرددا: حرام أكثر من مرة. ثم قال: لن أسمح لرجل أن يجري عملية قيصرية لزوجتي حتى لو اضطررت لأن أخسر الجنين. ردت عليه القابلة: ليس حراما. الحرام هو ما تفعله.
انصرفت القابلة وعادت بعد دقائق قليلة وبرفقتها إدارية من المستشفى وبيدها هاتف جوال. كان على الخط إمام مسجد تواصلت معه إدارة المستشفى؛ لإقناع الزوج بالموافقة على السماح بإجراء العملية على يد استشاري. طلبت القابلة من الزوج أن يخرج من الغرفة ويتحدث مع إمام المسجد على انفراد، بيد أن الزوج رفض قائلا: سأبقى هنا أحرس زوجتي. أعطني الهاتف لأتحدث معه هنا. أعطته الهاتف على مضض. تحدث معه طويلا. انتهت مكالمته مع إمام المسجد دون نتيجة إيجابية، حسب ما فهمت وشعرت.
الزوج يواصل رفضه والقابلة تستميت لإقناعه بالموافقة. بعد نقاش محتدم تخلله الكثير من صراخ الزوج انصرفت القابلة من جديد مهددة باستدعاء الشرطة وإخراجه من المستشفى عنوة إذا لم يوافق؛ لأن بقاءه وتعنته يشكل خطرا على سلامة زوجته والجنين.
في تلك الأثناء طلبت القابلة مني ومن زوجتي ومعنا سيدة أخرى مغادرة الغرفة إلى غرفة أخرى. لا أعلم ماذا حدث بعدها، لكن أعلم أن بعض المسلمين يشوهون صورة الإسلام بآرائهم وسلوكياتهم.
إن ديننا الجميل بتعاليمه وقيمه السمحة يتعرض للتشويه بأيدينا. إننا تعلمنا منذ أن كنا صغارا القاعدة الفقهية الضرورات تبيح المحظورات وأن الدين يسر وليس عسرا، لكن هناك من يعمل على تكريس صورة متطرفة لديننا ساهمت في رسم صورة خاطئة وغير حقيقية.
إنني أتساءل عن الانطباع الذي حملته القابلة البريطانية المسيحية عن الإسلام بعد نقاشها مع الزوج المسلم. قطعا سيكون انطباعا سلبيا نقلته لزميلاتها ولزملائها ولأسرتها ومحيطها.. فلقد أرسل لها رسائل تحمل في طياتها الكثير من التشدد والتطرف والتزمت التي لا علاقة لها بديننا لا من قريب ولا من بعيد؛ لأنها من اختراعنا. فكيف ستفسر قوله: لن أسمح لرجل أن يجري عملية قيصرية لزوجتي حتى لو اضطررت لأن أخسر الجنين. هذا القول الذي يسترخص الإنسان مؤلم حد البكاء.. لا يقبله عقل ولا منطق وبكل تأكيد دين، فكيف بديننا الذي يجسد ابتداءً باسمه وليس انتهاءً بقيمه ونصوصه وروحه قيم التسامح والسلام والوئام؟
من المحزن أن مفردة (حرام) تجري على ألسنة المسلمين بإسراف وتبذير. من المؤلم أن تتسم حوارات المسلمين بالانفعال والصراخ، الذي يغيب الرأي الحصيف ويعكس ضعف بنيتنا الفكرية وقدراتنا الحوارية.
يؤسفني أن ننفق في بلاد الغرب عقودا دون أن نستثمر ما وصلوا إليه من حضارة وتقدم، غير مدركين أن الحكمة هي ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها. فكم هو مخيب للآمال أن نقضي ردحا من الزمن خارج أوطاننا بعيدين عن أمهاتنا ومن نحب دون أن نؤثر ونتأثر، ودون أن نغير ونتغير.
كنت أتمنى لو أننا نجحنا في تصدير الثقافة التي تعلمناها من هدي المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، الذي وحد الأمة بتسامحه وكريم خصاله وطيب سجاياه، بدلا من نجاحنا في تصدير الشيشة إلى كل بقاع العالم.
إن المسلم الذي أعرفه هو من سلم الناس من لسانه ومن يده.. لكن للأسف صار المسلم اليوم هو من لا يسلم الناس من لسانه.