حينما اندلع الحريق المأساوي في كاتدرائية نوتردام في باريس في منتصف أبريل الحالي، كادت ذاكرة الناس الجمعية تجتمع حول قصة كوازيمودو وأزميرالدا، أو بما يعرف «بأحدب نوتردام» الرواية التي كتبها الأديب فيكتور هوغو. كانت النشرات الإخبارية تذيع حادثة الحريق والناس تستعيد تفاصيل الكاتدرائية وتكاد تسمع أجراسها، وبعضهم لم يزرها قط بل عرفها من خلال قصة الأحدب وفتاته الغجرية، والتي نقلها لذاكرة الناس بمختلف أجناسهم وجنسياتهم وأوضاعهم الاجتماعية والمادية قرابة خمسة أفلام كلاسيكية عالمية، وآخر موجه للأطفال، فضلا عن المسلسلات العربية التي اقتبست من تلك الرواية.

معرفة الغالبية العظمى من الناس بأحدب نوتردام وعدم شعورهم بالغرابة عند سماع اسم تلك الكاتدرائية وقت نشوب الحريق ليس بسبب أن الناس جميعها تقرأ أو تسافر، بل لأنهم يشاهدون، ولأن قوة السينما الناعمة منذ بدايتها البعيدة استطاعت أن تنقل ما لم يستطع فعله غيرها، وأن السينما تستطيع أن تشكل وعيا مجتمعيا أو تسهم في تشكيله على نحو ما، سواء أكان ثقافيا أو دينيا أو سياسيا أو اقتصاديا. ومن هنا تنطلق أهمية الصناعة السينمائية للدول، فهي ليست فنا سابعا جميلا وحسب، بل لها أبعادها الأرحب والأكثر نفوذا وتأثيرا.

يستطيع الكاتب أن يكتب مئات الأوراق وحده ويضعها بين دفتي كتاب، والمصور أن يلتقط عشرات الصور المبهرة ويحفظها في ذاكرة حساباته الخاصة، وكذا كل فن قد يستطيع التواجد منفردا وقد يكتب له البقاء أو النسيان في ذاكرة المتلقي. بينما صناعة السينما تتخذ لأجل تكوينها مسارا مختلفا عن بقية الفنون، حيث تبدأ بفكرة ثم تناغم بين نص وصورة ومونتاج ومؤثرات، وتكوين فريق عمل بمهام محددة يسير بانسجام حتى نهاية العمل الذي يراد تقديمه، ومن يطلع على روائع السينما العالمية يدرك تماما قيمة العمل المتكامل وتأثيره في جودة المنتج واستمراره.

من هذا الطموح العالمي جاء العمل السينمائي الوثائقي المحلي «كدمبل» الذي شارك ضمن مهرجان الشباب السعودي للأفلام في مدينة الرياض الأسبوع الماضي، والذي يعد منصة تشجيعية لعرض إبداعات الشباب السينمائية المميزة. «كدمبل» وصل لدور العرض السينمائية وسار على السجادة الحمراء بعدما كان مشروع صور انستغرامية في حساب المصور ماجد عون، أشعلت في رأس منتجه حسن العسيري فكرة تحويل هذه الصور إلى عمل سينمائي متكامل يهدف للعالمية، من خلال تقديم محتواه للمتلقي الأجنبي قبل المحلي، ويقدم منطقة عسير بشكل مختلف عن السائد، وفي جوانب لا يعرفها الكثير، وذلك ضمن سلسلة وثائقية كانت كدمبل أولها. ومن الجميل أن يُصادف عرض فيلم «كدمبل» في صالات السينما لأول مرة مرور عام كامل على السماح بالسينما في المملكة العربية السعودية، فكان عام واحد كفيل بأن يبادر عشرات الشباب المهتمين بالصناعة السينمائية بالعمل بشكل جاد ومثمر في الفن السابع والطموح للظهور والمنافسة عالميا؛ وما كدمبل إلا إحدى ثمرات هذا القرار الذي كان للسينما السعودية حلما جميلا لمسنا لذة تحقيقه على أرض الواقع، ونحن نشاهد أعمالا متكاملة صنعت بفرق عمل متجانسة من الشباب السعوديين في مختلف المناطق.

ولاهتمام الشباب بمنطقة عسير بالصناعة السينمائية فقد تأسس بشكل رسمي خلال الأشهر الماضية مجلس عسير للأفلام، والذي يأتي كمنصة ثقافية وفنية غير ربحية لصناعة الأفلام وتقنياتها، ويكون مظلة إبداعية لجمع الشباب المهتمين بصناعة الفن السابع. وقد كان لتأسيس هذا المجلس دور ملحوظ في تأسيس وترسيخ قيمة العمل كفريق. وهذا ما ينبغي على الجهات الربحية بالمنطقة من رجال أعمال وشركات ومؤسسات تهتم بالخدمة المجتمعية، أن تولي هذا الحراك الفني المهم عناية خاصة بالدعم والمساندة، فالصناعة السينمائية ليست ترفا ولا مجرد هوايات يمارسها بعض الشباب، بل إنها كما ذكرت أعلاه قوة ناعمة لا يستهان بها لها أثرها الاجتماعي والثقافي والسياسي، ولها أبعادها الاقتصادية والتنموية، كما أن الأفلام التي تتحدث عن منطقة عسير تعمل كعامل جذب وتعريف بمقومات المنطقة السياحية، ونقل صورة سينمائية معاصرة للواقع الثري في عسير، تبهر المتلقي وتستقطبه للاستثمار أو السياحة. ويمتد الدور للمساهمة في الصناعة السينمائية أيضا للجامعات، خاصة جامعة الملك خالد التي تخدم منطقة عسير والتي ينبغي أن تستحدث أقساما تتواءم مع واقع واحتياجات المنطقة والشباب فيها؛ كتخصصات فنية تهتم بالصناعية السينمائية بجميع مكوناتها باحتراف فضلا عن التخصصات السياحية والتراثية.

في منطقة عسير –كمختلف المناطق في وطننا- خامات ثرية من الشباب الواعد الذي يحمل قضية الفن والإبداع فيه محمل الجد، وبقدر ما يحتاج هذا الخام من اكتشاف وتشكيل وتوجيه فهو يحتاج الدعم والمساندة. ولعسير بشكل خاص ثراء غير مسبوق في مكوناتها الطبيعية والتراثية والاجتماعية والتي قد يتلقفها المتلقي محليا أو عالميا بشكل مختلف من خلال طموح شباب المنطقة السينمائي، وما «كدمبل» إلا مثال أول انطلق من عسير وهدفه عناق العالمية سينمائيا. ولا يأتي هذا الحديث عن هذا الفيلم خاصة في معرض التحدث عن إنجاز شخصي بصفتي كاتبة النص للعمل بلغتيه، بل لأنني لمست من فريق العمل الذي عملت معه الحرص والأمل على أن تكون هذه بداية قادمة لمشاريع سينمائية وفنية أكبر مما أنجز. كلماتي التي كتبت لن يكون لها معنى لو لم تتناغم مع الصور التي التقطها ماجد، وكلاهما لم يكونا ليظهرا على السجاد الأحمر ومنصات العرض السينمائية لو لم تلتمع شرارة تلك الفكرة لدى حسن، الذي اشتغل على الخام الذي لدينا مونتاجا وإخراجا ومؤثرات، حتى نافسنا ضمن أربعين عملا، ونلنا استحقاق العرض مع بقية الزملاء في منصة مهرجان الشباب للأفلام السعودية، ومنها نأمل أن من لم يزر عسير ولم يقرأها في الكتب، يستطيع أن يعرف تفاصيلها ومكوناتها من خلال عرض سينمائي واحد كما عرف أغلب الناس كاتدرائية نوتردام من معرفتهم لأحدبها وغجريته.