التدين الحقيقي مهم لنماء المجتمعات المسلمة، والمحافظة على سنن الإسلام، ناهيك عن واجباته التي يلتزم بها الجميع بدرجات متفاوتة، كما أن التدين الصحيح يسهم في دوران عجلة ممارسة الفضائل التي يحث عليها الدين، كما أنه -أي التدين- يسهم بالنأي عن التجاوزات التي يأمر بتركها أو يحفز على تجنبها، وهذا مشروط بألا يتجاوز هذا التدين إلى التدخل في شؤون الناس.

ولإدراك صورة المتدين الحقيقي وجوهر التدين الصحيح، يجب أن نزيح من أذهاننا صورة بعض المتدينين الذين شوهوا صورة التدين في أذهان الناس عبر التعاملات والسلوكيات الخاطئة، التي أوصلت البعض إلى مستوى عدم الثقة بأي ملتحٍ لا يلبس عقالًا، وهذا المتدين الذي شوه التدين هو صورة من صور البشر ضعاف النفوس الذين وقعوا نهبًا لشهواتهم، أيًا كانت هذه الشهوة سواءً شهوة التسلط، أو شهوة الفضول، أو توافروا على خصال الكره والحقد والحسد، وغيرها من الخصال السيئة.

وثمة مدخل جيد، لخلق حالة من الوعي بالتدين الحقيقي، وهو أن التشدد في جزء كبير منه لا يكون إلا رياءً وسمعةً، بمعنى أن المتشدد يقول للناس هذا هو تديني القائم على العزيمة والأخذ بالأحواط والتورع والزهد، وهذه عبادتي القائمة على المشقة التي هي أكثر أجرًا، وأقرب زلفى إلى الله.

ويضاف إلى ذلك أن أول مشاعر المتدين حديث التدين، هي الانجذاب إلى الشبيه قولًا وشكلًا وممارسةً، وأول مظاهر هذا الانجذاب، هو تبرير مثالب الشبيه، والمتدين حالة متميزة عمن حوله، وقد يعيش حالة اغتراب حقيقية في بعض المجتمعات، الأمر الذي قد يولد تكتلًا على ممارسات معينة، وسلوك معين، مما يجذب بعض المنتفعين، الذين يلجؤون إلى التمظهرات التدينية، دون مخالطتها لبشاشة القلوب، ومن هنا تأتي غالب معايب التدين السائد.

وهنا يجب البناء الصحيح على صورة ما يجب أن يكون عليه المتدين، وليس على سلوكيات وممارسات المتدينين الفاسدة، التي أضحت تدينًا متخيلًا طبع في ذهنية المجتمع وذهنية أفراده وفي عقله الجمعي.

هذه السلوكيات والممارسات الفاسدة كانت في أصلها استحسانات شخصية بحتة، وطقوسًا عبادية رغب في فعلها أحدهم، ومع مرور الوقت تحول هذا التدين الشخصي إلى دين ملزم أو مندوب، وخذ على ذلك مثالًا: وهو تحويل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أداة عقابية، واغتيالً معنوي ناجز، بدلًا من أن يكون دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومثال آخر هو تلك العبادات ألفية العدد، التي لم يعرفها الإسلام في وقت التنزيل، ولا أعرف أنه زيد في عبادة ما عن المائة عدد إلا في الذكر فقط، وكون الإسلام حاضرًا ومنتعشًا في كل يوم وفي كل ساعة وفي كل لحظة في نفوس المسلمين، لا ندرك أنه مر أكثر من 1400 سنة على اكتمال الدين وانتهاء التنزيل، مما يعني حدوث كم هائل من الإضافات والاجتهادات التي هي في غالبها غير ملزمة، وربما مكروهة، وربما كانت مبتدعة ليست من الدين في شيء، ويكفي أن تطلع على الكم الهائل من الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة أو التي لا تقوم بها حجة على الأفعال التعبدية والمعاملاتية، وإن كان البعض يجيزها في فضائل الأعمال، دون الواجبات والمسنونات والمستحبات، الأمر الذي أنكره أنصار منهج المتقدمين في الحديث، وهو الأصح فالدين متين ولا يؤخذ في صلبه وملحه إلا بالمتين المبين.

وقصارى القول، فإن التدين الحقيقي المبني على الدليل الصحيح، يحولك إلى إنسان عاقل، ومتحضر يصاحبك الرقي والسمو أينما كنت وحيدًا أو في جمع ممن يحلو لك إظهار أجمل وأروع شخصياتك المتعددة أمامهم.

والتدين الحقيقي يعالج شروخ الروح التي تنبعث منها روائح الحقد والحسد والكره، كما أن التدين الحقيقي يعلي من قيمة حسن الظن إلى أعلى درجة في التعامل مع البشر، كما أن التدين الحقيقي لا يجاوز الألم والحزن والعطب بسبب تأنيب الضمير الحي على الذنب الذي يكون متماسًا مع الإساءة والإضرار بالآخرين.

والتدين الحقيقي يؤثر على الأسلوب والسلوك، ويؤثر على التفكير ويؤثر على المشاعر ويصقلها ليجعلها معدنًا نفيسًا لامعًا مشعًا يبهج الناظر ويسر الخاطر، فالدين المعاملة، وأقربنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزلًا يوم القيامة، أحسننا أخلاقًا.

أخيرًا، لا يمكن أن نقيس مدى صلابة تدين المجتمع أو ليونته، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، كما أن ثمة تضخيمًا إعلاميًا خارجيًا ممنهجًا ومتعمدًا لتمدد التدين أو قصوره في المجتمع السعودي.