كل الظروف المعاشة، والأوضاع المختلفة تفرض على صاحب البصيرة أسئلة دقيقة، وتفرض عليه أيضا أن يبحث عن أجوبة عنها، دون استسلام لليأس، أو فقدان للأمل، ويستوجب هذا أن يقوم الإنسان بنقد ذاته، وأن يقوم بالتشخيص الصحيح لما يواجهه من مسائل، وأن يسمح لعقله بالانطلاق نحو مختلف الآفاق، ويخلص نفسه من أسباب التخلف، وخصوصا تلك المتعلقة بالمسائل الحضارية، والمسائل العلمية، والأمور الدينية.

محاذير كثيرة ينبغي التنبه لها عند من يرغب في تحرير نفسه من أسباب التخلف المذكورة سابقا، ومن أهمها اختزال الدين في الشعائر المعروفة، وفي الشكليات الخالية من الجوهر، وتكريس الكلام عن المغيبات، وتغييب دور العقل، وعدم القيام بواجب إعمار الكون، وأن يعيش العالم في سلام، وأن ينعم العباد بالوئام، والبعد التام عن كل ما يمكن أن يؤدي بهم إلى التشدد في الدين، والتشديد على خلق الله أجمعين؛ وكأن الدين شقيق ملازم للفظاظة والغلاظة، في القول والعمل، أو أنه باب لاختلاف العقول، وتشرذم النفوس..

العاقل من البشر، هو الذي يبحث عن سبل ارتقاء العقل، ويبحث في أن يكون إنسانا مؤثرا في مجتمعه، لا أن يكون مجرد مستقبل لآراء من حوله، ومقلد أعمى، ومستهلك غير مبدع، وأسير للأمجاد القديمة؛ وهذا يستلزم توفر عزيمة قوية، وإرادة صلبة، وعدم تخوف من إعادة النظر في المفاهيم والأحكام السابقة، خاصة وأن العيب فينا، وليس في مصادر ديننا.

يقول الحق ـ سبحانه وتعالى ـ، في الآية رقم 61 من سورة هود، على لسان نبيه سيدنا صالح ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ: {.. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب}، والعمارة المطلوبة هنا ليست خاصة بقوم ثمود، بل هي مطلوبة من كل إنسان، ومعناها بلغة العصر أن نقوم بصنع الحضارة، أو المساهمة في هذا الهدف النبيل، والتفكر دوما في المسؤولية الحضارية، التي تقع على كاهل كل إنسان منا، والتي أجملها المولى ـ جل جلاله ـ في الآية 36 من سورة الإسراء، في مجموعة من التوجيهات اللازمة، ومنها: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}، ونبه إليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثه الصحيح المشهور «لا تزولُ قدَما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه»، رواه الإمام الترمذي وغيره، وله روايات أخرى مختلفة، تدل على أهمية صيانة الجوارح، وأهمية الوقت، وأهمية العمل الصالح، الذي يتجاوز أداء الشعائر، إلى القيام بواجب تحقيق القيم الدافعة إلى تقدم البلاد، ورقي العباد.