هل تحطم جدار برلين فعلا؟، أم أن الجدار الشعبوي يُبنى كل يوم، بل يزحف باتجاه أمم أخرى ليعم قارات العالم؟.. إنه لأمر مخيف حقاً!.. ومنذ أول خطاب محافظ في العالم بدأ يستعر هذا الخطاب الشعبوي التاتشري ليكاد يعم العالم، وخاصة أن العقلاء والحكماء أخذ دورهم بالانحسار لصالح هذه القوى الشعبوية الهزيلة فكريا والجارفة شعبويا، حيث بدأ يأخذ هذا الخطاب شكل خطاب قبلي متعصب، والأخطر أنه أضحى خطابا ثأريا استئصاليا من الثقافات المختلفة عنه، حيث يرى في بعضها ثقافات عدوة وتاريخا ثأريا يجب العودة إليه.

تعتمد الخطابات الشعبوية على شحن العامة بشعارات عاطفية تحمل إيديولوجيات ثأرية، عادة ما تستمد وقودها من الماضي المشوه تاريخياً، وتنظر إلى التفوق الحضاري الحاضر على أنه البداية والنهاية، تتوّج هذا بآخر مذبحة يقوم بها عنصري أسترالي بحق أناس مسالمين لم يحملوا السلاح، كل ذنبهم أنهم ينتمون إلى دين وحضارة لا تروق لهذا الفتى، فعمل لفترة طويلة كي يقوم بفعلته النكراء التي فعل، وهو بهذا يؤكد هذه النظرية الشعبوية المقيتة.

فعلها من قبله المجرم النرويجي الذي أعد عدته وقتل حوالي ثمانين إنساناً لمجرد أنهم ينتمون لعرق الإنسانية غير الشعبوية، ويتطلعون للعيش المشترك مع الآخر، لم يرق له هذا فأراد أن يعطي رسالة أن العرق الذي ينتمي له هو المتفوق، ولا يجب أن يختلط بعرق آخر، أو ثقافة أخرى، ونسي هذا الجاهل أننا جميعا من نسل آدم وحواء.

حاول من قبلهم سلوبودان ميلوشيفتش عندما شحن الصرب شعبويا وقوميا وبجرعات عالية من التاريخ الحاقد، فقد صوروا أن البوسنيين سلالة العثمانيين الذين هزموهم في موقعة كوسوفو المشهورة والتي وقعت في غابر التاريخ في يونيو من عام 1389 فقتل فيها الملك الصربي آنذاك لازار، وأيضا السلطان العثماني مراد الأول، لينتهي الحال بعدها بحكم العثمانيين لصربيا حوالي خمسة قرون لاحقة..!.

لم ينس الصرب ما حصل لهم سواء في هذه المعركة أو من حكم العثمانيين لهم، فقد استأسدوا على مسلمي البوسنة عام 1992ـ 1995 فحصلت المجازر والاغتصابات والدمار على أساس عرقي ديني، ومن حشد لذلك سياسيون تبنوا خطابا ديماغوجيا شعبوبيا ثأريا استئصاليا.. كنت شاهد عيان على كل ما حدث.!

الظلام الفكري الشعبوي ينطلق من الشمال «المتحضر» ويرافقه للغرابة خطر السيول الجارفة جراء ذوبان ثلوج جبالها في القطب، وهو ما ينذر بكارثة فكرية نعيش بعض حلقاتها، وكارثة إنسانية قد تغرق كثيرا من مدن العالم اليوم.. وهكذا يغرق كثيرون في هذا الظلام الفكري والعقوبة الإلهية اللاحقة بعد أن خرّب الإنسان البيئة التي يعيش بها ولم يهتم لمآلاتها، آخرهم الرئيس ترمب الذي لا يؤمن بما يحدث للبيئة فانسحب من الاتفاق البيئي العالمي.

هذا الخطاب الشعبوي الذي يسمم الآخرين بالأفكار العلوية والفوقية والتمايز عن الآخر، وأيضا يحمل الآخر بعض أسباب ضعفه أو مشاركته إياه الحياة بغير وجه حق كما يرى، أخذ هذا الفكر الشعبوي ينتشر في كل القارات فأصاب أستراليا وأميركا بعد أوروبا.. ولقد انتشر هذا الخطاب الشعبوي المشبع بالكراهية والحقد على الآخر المختلف كالنار في الهشيم، وأضحى عدوى فكرية خطيرة تنتقل عبر وسائل الإعلام الرديئة إلى كل مكان، فأصبح هذا الخطاب يتسلم مفاصل القرار والقوة المؤثرة في العالم، حيث نرى أن أعتى البرلمانات أصبحت يمينية القرار، وآخرها البرلمان الأوروبي الجامع وهنا مكمن خطره.

لا حل سوى التعايش السلمي بين الناس.. أسقطوا الخطاب الشعبوي قبل أن نسقط جميعا في الدرك الأسفل من السقطة الشعبوية الفكرية والحضارية والإنسانية.. أسقطوه بالوعي، بخطاب المحبة والسلام.. قال صلى الله عليه وسلم «كلكم من آدم، وآدم من تراب».