شاع الحديث عن بيوت الصحابة رضي الله عنهم وآثارهم في مكة، وأنها أصبحت فنادق ودورات مياه، ومعظم بواعث ذلك: حملة التشويه السياسي لجهود المملكة التي قامت - ولا تزال - بأعظم خدمة وتوسعة للمسجد الحرام عبر التاريخ.

لكن ما ذُكِر يحتاج إلى رد علمي ينبه المغتر ويوقف ذا الهوى، وسوف أُسهم في الجواب إحياء للسنة ودفعا للبدعة.

فأقول: إنه لم يبق خارج نطاق المسجد الحرام وساحاته من مواقع مساكن قريش في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء كثير، اللهم إلا مساكن من كانوا يعرفون بقريش الظواهر، والغالب عليهم أنهم بادية ينزلون ويظعنون.

فبلدة مكة التي كانت زمن الرسالة - وهي رباع قريش التي قسمها بينهم قُصَي بن كلاب - مكانها اليوم المسجد الحرام بأسره، وربما زادت مساحته عنها في بعض الاتجاهات، وبقيت مواضع قليلة لم يغطها المسجد حتى الآن؛ كأسفل جبل أعاصير الذي يرى الأستاذ أحمد السباعي أنه الجبل الذي يعرف اليوم بجبل عمر، وكذلك شعب ابن عامر كانت فيه بيوت قليلة لأهل مكة في عصر الرسالة.

أما ما يتداوله بعض المؤرخين من تحديد بيوت بعض الصحابة؛ كدار الأرقم بن أبي الأرقم وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم، أو تحديد بيوت بعض كفار قريش؛ كما كان يسمى ببيت أبي لهب، وقد تم هدمه في عهد الملك عبدالعزيز، كُلها أوهام وتخرصات ليس عليها دليل.

فمكة حرسها الله قد مرت بفترات تاريخية خلال 1440 عام تغيرت فيها معالم كل شيء، ليس الآن وإنما منذ زمن بعيد جداً، ولعل أقدم مؤرخي مكة الإمام محمد بن عبدالله الأزرقي توفي سنة 250هـ نلحظ مما ذكره من خُطط مكة في عهده أن فيها تغيرات كبرى عما كانت عليه في عهد الرسالة، فهو يذكر سوقًا للفاكهة وللصاغة وللحناطين والعطارين وكل ذلك لم يكن قبل، فكيف الحال فيما بعده وفيما بعده من العصور؛ بل نص على انتقال كثير من ملكيات البيوت وإعادة إعمارها وتغير سككها وحدودها.

وذكر - رحمه الله - بعض دور الصحابة في معرض وصفه لرباع مكة، لكن تحديد أماكن هذه الدور في وقتنا بعد تغير المعالم ضرب من المحال، فإن وصف الأزرقي لا يمكن من خلاله أن نعرف منه موضع الدار بدقة، فهو يقول: دار فلان التي برأس السكة الفلانية عند دار فلان؛ والحد والمحدود غير موجودين من زمن بعيد جداً، وهذا خلاف ما يزعمه الزاعمون الذين يدَّعون أن الدار الفلانية في مكان الفندق الفلاني أو المنشأة الفلانية.

ولنأخذ مثالاً على ذلك بدار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والتي يزعم هؤلاء أنها في مكان فندق دار التوحيد، ويزعم آخرون أنها في مكان شركة مكة للإنشاء والتعمير، وهذا الاختلاف بينهم يكفينا في الرد عليهم، لكننا مع ذلك سوف نسألهم: كيف عرفتم؟

فإن قالوا: عن طريق وصف الأزرقي [تـ250هـ ]أو الفاكهي [تـ قبل 300هـ] فإننا سنأتي لهم بنصوص الرجلين ونؤكد لهم أنها لا يمكن أن تفيدنا عن الموقع؛ فالأزرقي [أخبار مكة ص894] يقول: إن دار أبي بكر في خط بني جُمَح، ولا يحدد مكانها بالضبط، وحين نبحث عن خط بني جُمَح ونحاول معرفة موقعه نجده في مكان آخر، إنه عند الردم، لكن أين هذا الردم؟.

لا يفيدنا الأزرقي، فكيف عرف هؤلاء أنه مكان دار التوحيد أو شركة مكة؟!

وحين ننتقل للفاكهي [أخبار مكة 3/300] -وهو مؤرخ ومحدث مكي معاصر للأزرقي، وإن كانت وفاته بعده بأكثر من عقدين- نجد أنه يقدم المعلومة نفسها، ويزيد عليها بأن خط بني جمح في المسفلة، وهذا يؤكد أن الزعم بأن دار أبي بكر مكان دار التوحيد أو شركة مكة لم يُبْنَ على تحديد دقيق، ولا وصف معين صريح.

هذا مثال على استحالة التحقق من مواضع بيوت الصحابة أو غيرهم، وإنما كانت نسبة بعض المواضع لأناس معينين من باب الظن، ولعل شيئا منها جاء من قَبِيل التعرض للافتتان في بعض البقع التي لم يرد بفضلها شرع من الله، وهذا من صرف الشيطان الناس عن الحق، وإلا فإننا لو فرضنا أن نسبة تلك المواقع صحيحة، فإنه لا فضل لها، وهي أرض مثل سائر الأرض، يجوز الانتفاع بها بأي أنواع الانتفاع، وليس لها أي قدسية أو مكانة.

وقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء وفي حجة الوداع ولم يُرْوَ عنه أنه ذهب لبيته الذي وُلِد فيه أو بيت جده أو خديجة رضي الله عنها.

بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمضى بيع عقيل بن أبي طالب لرباع بني هاشم «عن أسامة بن زيد أنه قال: يا رسول الله أتنزل في دارك بمكة؟ فقال: (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور)، وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي شيئا؛ لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين».

ولم يقتصر عقيل على بيع أملاك أبي طالب، بل باع قبل أن يسلم أملاك من هاجر من بني عبد المطلب، ومنها ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم، قال القاضي عياض: «قال الداودي: فباع عقيل جميع ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم، ولمن هاجر من بني عبد المطلب». [إكمال المعلم 4/463].

ولو كان لتلك الدور شيء من القدسية لم يُقِر صلى الله عليه وسلم عقيلاً رضي الله عنه على بيعها ولاستردها وجعلها وقفًا للمسلمين.

وقد استدل الشافعي رحمه الله بهذه الواقعة على أن مكة فُتِحت صلحا فيُقر أهلها على أملاكهم التي آلت إليهم شراءً أو إرثًا.

ولتعلق تلك الرباع بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت الحكمة والمصلحة في عدم عودة النبي صلى الله عليه وسلم إليها ولو من باب الزيارة للتذكر أو نحو ذلك من الأغراض؛ لأن هذا يؤول حتما إلى اعتباره سنة، ويضفي عليها قدسية ليست من مقاصد الشرع، لذلك تَجَنبها عليه الصلاة والسلام وتجنبها أصحابه والتابعون وتابعوهم.