صديق يعمل في أحد أهم مراكز التفكير في واشنطن كان يستغرب من الهجوم الذي تتعرض له السعودية بشكل منظم من الدول العربية وبعض الدول الإسلامية، في الوقت الذي لم تدخر فيه السعودية جهدها في دعم تلك الدول سياسيا واقتصاديا وإنسانيا، وهو يعلم تمام العلم تاريخ ورموز القيادات العروبية وشعاراتها ومنجزاتها وإخفاقاتها منذ بدايات النهضة العربية وحتى الآن، وكيف أن الشعبوية دون نهضة صلبة وتنمية حقيقية تصبح أفيونا للشعوب العربية التي طالما تغنّت برمي إسرائيل في البحر، فخرج الفلسطينيون عبر البحر إلى تونس بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وكنا نردد نشيد «والله زمان يا سلاحي اشتقت لك في كفاحي» والمقاتلون في الجبهات دخلوا حرب 1948 بأسلحة فاسدة، ودمرت الأسلحة على الأرض أو تم الانسحاب من بعض الأراضي العربية بلا طلقة رصاص واحدة عام 67.

ويتم تجييش المشاعر العربية ضد السعودية في أنها باعت القضية الفلسطينية وإقحامها في صفقة القرن، رغم أن الموقف السعودي لم يتزحزح منذ الملك عبدالعزيز، وفي الوقت الذي كنا نقتطع من مصروفنا المدرسي ونجمع القروش لنأخذ الريال العزيز في ذلك الوقت، لنذهب إلى مكاتب اللجان الشعبية لمساعدة الشعب الفلسطيني ضمن حملة «ادفع ريالا تنقذ عربيا»، رداً على حملة فرانك سيناترا «ادفع دولارا تقتل عربيا»، مع أن السلاح الفلسطيني وقتها كان يرفع في وجه العرب، حيث وقعت أحداث أيلول الأسود عام 1968، وتفجرت الحرب الأهلية في لبنان بين ميليشيات الأحزاب اللبنانية والفصائل الفلسطينية، وأدخل لبنان كله في الكارثة.

ربما أتفهم ردود أفعال الدهماء في الشارع العربي الذين تحركهم وسائل إعلام مدفوعة، وأحزاب معروف مصادر تمويلها، وأشخاص قبضوا ثمن التجييش الذي يقومون به، ولكني لا أتفهم أن تكون هناك أصوات جاحدة من المنظمات الفلسطينية ومن الداخل الفلسطيني، ومن أسماء كبيرة يعرفون جميعا ما قدمته السعودية سياسيا لنصرة القضية، وما أنفقته حكومة وشعبا منذ النكبة على فلسطينيي الشتات منذ 48 ثم 67، وما التزمت به من إعانات في قمم الخرطوم وبغداد والجزائر، وإعانات الانتفاضة الأولى والثانية، والبرنامج الإنمائي لصندوق التنمية السعودي بأكثر من مليار ريال لدعم قطاعات الصحة والتعليم والإسكان وغيرها كثير، الغريب أنهم يمجدون إردوغان الذي يرتبط بعلاقات دافئة مع إسرائيل بعيدا عن حفلات الهياط الشعبي التي يلقيها في خطبه، وقطر التي استقبلت بيريز استقبال الفاتحين، وعمان وغيرها من الدول العربية، ويحجون إلى طهران لتقبيل يد خامنئي الذي أطلق عبر وكلائه صواريخ وطائرات مسيرة على السعودية والمدن اليمنية في عام، أكثر مما أطلقه وكيله نصر الله على إسرائيل في 30 عاما، ولعل أشهر مبادرتين عربيتين سابقتين في قضية فلسطين كانتا للملك فهد عندما كان وليا للعهد، وللملك عبدالله، فالملك فهد كانت مبادرته ردا على وزير الخارجية الأميركي ألكسندر هيغ، عندما أعلن عام 1981 عن شرق أوسط جديد، ويتكون مشروع السلام السعودي من 8 مبادئ هي:

1 انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس.

2 إزالة المستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت بعد 67.

3 ضمان حرية العبادة للجميع.

4 تأكيد حق الشعب الفلسطيني في العودة وتعويض من لا يرغب في العودة.

5 تخضع الضفة والقطاع لفترة انتقالية لعدة أشهر بإشراف الأمم المتحدة.

6 قيام الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس.

7 تأكيد حق دول المنطقة في العيش بسلام.

8 تضمن الأمم المتحدة أو بعض الدول الأعضاء تنفيذ هذه المبادئ.

هذه المبادرة رفضتها مصر فور إعلانها كما رفضها رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، ورأى أن المبادرة السعودية خطة لتدمير إسرائيل على مراحل، لكن الأغرب أن قيادة وكوادر فتح داخل منظمة التحرير رفضت المبادرة بعنف، وأعلن فاروق قدومي أن الظروف غير مناسبة لحل سلمي، وأن الفلسطينيين يرفضون النقطة السابقة رفضا قاطعا، وأمام الضغوط التي مورست على السعودية اضطرت إلى سحبها في قمة فاس في العام نفسه، وأعلنت السعودية أنها تؤمن بأن أي إستراتيجية عربية يجب أن تحظى بالدعم الجماعي، وأنها مستعدة للقبول بأي بديل يجمع عليه العرب، وما رفضته آنذاك قطاعات من الفلسطينيين والعرب تطالب الآن بفتات ضئيل منه «مبادئ المبادرة السعودية» ولم يحصلوا عليه.

في عام 2002 أعلن الملك عبدالله مبادرته في القمة العربية ببيروت التي أطلق عليها مبادرة السلام العربية، وتطالب المبادرة إسرائيل بأربعة أمور هي:

1 إعادة النظر في سياساتها وأن تجنح للسلم.

2 الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 67 بما في ذلك الجولان وجنوب لبنان.

3 الحل العادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

4 قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على أراضي 67 قبل الرابع من يونيو.

ومع أن المبادرة حظيت بالتأييد العربي ورفضها الإسرائيليون كالمعتاد فإن هناك من الفلسطينيين والعرب من وقف ضدها، حتى أن الفلسطيني القومي إبراهيم علوش يصفها بالمبادرة الميتة غير المأسوف عليها، واليوم يطالبون بأقل منها ولا يجدون قبولا.

وفي العام الماضي مع تصاعد نغمة صفقة القرن وقرار الرئيس ترمب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، اتصل الملك سلمان بالرئيس الأميركي وأبلغه بمخاطر مثل هذا القرار على المنطقة وعلى عملية السلام، وأصدرت السعودية بيانا صريحا يوضح موقفها، ومع ذلك تعالت الأصوات في المنطقة العربية ومن الداخل الفلسطيني تتهم السعودية ببيع قضية فلسطين، مع أن الجميع يعلم أنها لم تتاجر بالقضية يوما كما فعل غيرها، ولم تتخذها قميص عثمان كما فعل غيرها، ولم تطلق شعارات الرفض بيد وتصافح إسرائيل باليد الثانية كما فعل غيرها، وقبل أسابيع قليلة كانت السعودية أول من أعلن رفضه تصريحات نتنياهو بضم أجزاء من الضفة الغربية لإسرائيل، في بيان صدر من الديوان الملكي وليس من وزارة الخارجية، وتبع ذلك تبني المملكة الدعوة لاجتماع طارئ للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وحشدت السعودية كل إمكاناتها وتأثيرها لاتخاذ موقف عربي وإسلامي ضد ذلك، وتوج ذلك باتصال خادم الحرمين الشريفين بالرئيس الفلسطيني «المنصف» أبو مازن أكد له بطلان إعلان إسرائيل ضم أراضٍ فلسطينية.

الغريب أن هذا التحرك لم تشر إليه أي جهة من الجهات التي تتهم السعودية افتراء بأنها ضد القضية، بل وما زالت وسائلهم الإعلامية تردد الأسطوانة المشروخة والمكرورة، مع أن السعودية لم تخالف يوما الإجماع الفلسطيني أو قرار سلطتها الشرعية، سواء أكان صحيحا أو جانبه الصواب، لكن هل هناك إجماع فعلا؟ وهل الفصائل تعمل لصالح قضيتها أم لمصالح حزبية تبعا لولاءات الفصائل الخارجية منذ عقود وليست وليدة اللحظة؟.