جمعني لقاء عمل مع معلمتين من معلمات إدارة التعليم بمحافظة المخواة، ودار بيننا حديث ممتع عن هموم التعليم وطرق التدريس والتجارب المميزة التي تشكلت على مدى 27 عاما من العطاء المتواصل.

وخرجت من الحديث مع الأستاذتين زينة جمعان وحمدة عثمان بدروس قيّمة تستحق أن تدوّن في أمهات الكتب التعليمية والتربوية.. حيث أدهشني ذلك الشغف الذي ما زال يتجدد، والعطاء الذي ما زال يتدفق بشكل يومي رغم انقضاء أكثر من ربع قرن على مزاولتهما مهنة التعليم.

تدرس حمدة وزينة في مدرسة «آل بجاد» وتتركز سياسة المدرسة على أن المعلمة تتسلم الصف الأول وتصعد معه للصف الثاني حتى انتهاء الصف الثالث، ثم تعود من جديد لاستلام الصف الأول من جديد، وتسمى معلمة صفوف أولية، وهو مسمى يختلف عن معظم المدارس التي يتم فيها تثبيت معلم واحد لكل صف من الصفوف الأولية، ويسمى معلم الصف الأول أو الثاني أو الثالث.. والطريقة الأخيرة لها إيجابياتها من حيث إلمام المعلم بجميع أسرار الصف واستفادته من الخبرات المتراكمة على مدى السنوات، مما يجعل العمل أكثر سهولة وسلاسة بالنسبة إليه، غير أن طريقة معلم الصفوف الأولية تبدو أكثر ثراء وجمالا وإبهارا وجدوى.

حيث يكون المعلم مسؤولا مسؤولية تامة عن تأهيل جيل كامل من الطلاب على مدى ثلاث سنوات، بمعنى أن طالبات الصف الرابع لهذا العام مثلا هن الصورة النهائية لإنتاج معلم معين من جميع النواحي: التعليمية والتربوية والنفسية والأخلاقية، حيث تنشأ علاقة شديدة الحميمية بين هؤلاء الطلاب ومعلمهم الذي قضى معهم ثلاث سنوات متواصلة من العطاء المتواصل عبر ثلاث سنوات متتالية، ولا يخفى أثر ذلك الاستقرار العاطفي والنفسي على المردود التعليمي لهؤلاء الأطفال في تلك السن.

وغني عن الذكر أن قائدة مدرسة «آل بجاد» لا ترشح لهذه الرحلة الثلاثية - الشاقة والممتعة في آن معا- سوى المعلمة السوبر، التي ترى فيها كافة المقومات التربوية التي تؤهلها لاستلام هذه المهمة الصعبة ببراعة واقتدار، حتى تخيلت لوهلة أن المعلمة تلقي القسَم قبل استلامها مهمتها، بأن تؤديها على الوجه الأكمل الذي يرضي وجه الله ويبيض وجه الوطن.

عندما يتأسس الطالب بشكل صحيح ومخطط له على مدى ثلاث سنوات متصلة في مرحلة الطفولة، أزعم أنه قد اجتاز أصعب مراحل التعليم على الإطلاق بنجاح، وأن مروره ببقية المراحل هو فقط لتطبيق ما تدرب عليه في الصفوف الأولية، حيث يتفرغ معلمو الصفوف العليا ـ والمتوسطة والثانوية فيما بعد ـ لتقديم مادتهم العلمية بكل أريحية لطالب جاهز تماما، مهيأ تماما، مستعد تماما، لإتمام رحلته التعليمية دون عوائق أو مشكلات، بحيث نتخلص نهائيا من عوائق التعلم الناتجة غالبا عن ضعف التأسيس في مرحلة الصفوف المبكرة وما يتعلق بها من ضعف كتابي وقرائي مؤثر بشكل كبير على مسيرة الطالب التعليمية.

وشدني جدا في حديثي مع المعلمتين الطرق والإستراتيجيات السهلة جدا التي تستخدمها كل معلمة في خدمة منهجها دون بهرجة أو مبالغة تذهب بالهدف الأساسي منها وهو إيصال المعلومة للطالبة أو إكسابها المهارة بأفضل وأسهل طريقة.

كما لفت نظري العلاقة الإنسانية بالغة العمق والحميمية بين كل معلمة وطالباتها على امتداد تلك السنوات الثلاث، بل إنها تمتد أحيانا إلى بقية المراحل، بل وإلى مدى الحياة.

ما أحوج تعليمنا اليوم إلى معلمين ومعلمات يحملون رايته إلى العلا.. وما أحوج طلابنا وطالباتنا إلى معلمين ومعلمات يحملون شغف هاتين الأستاذتين وأمثالهما من أبناء وطننا المخلصين.