المدرسة تشعرني بالملل، المعلمة مملة، وظيفتي مملة، حياتي مملة، أقراني مملون، ألم تسمع بمثل هذه العبارات؟ هذا إذا لم تكن أنت ممن ينتمون إلى هذه المدرسة! مدرسة الملل! أصحابها ممن يفضلون النظر إلى كل شيء خارج إطار ذاتهم على أنه السبب في هذا الملل، وعليه يعلّقون في كثير من الأحيان فشلهم أو انسحابهم من المهام أو العلاقات على أن هذا الآخر، الذي قد يكون بشرا أو عملا أو حتى حجرا، هو المتسبب والراعي الأول والوحيد لمشاعر الملل!

إليكم معلومة قد تصدمكم، أو ربما تسهم في إيقاظكم من عالم الخيال، وإرجاعكم إلى عالم الواقع، الآخر، سواء كان بشرا أو جمادا أو مجرد مهمة، ليس مسؤولا عن الملل الذي تشعر به! وأكرر هنا أن حديثي لمن ينتمون إلى مدرسة الملل.

بالنسبة إلى الطلاب والتلاميذ، مسؤوليتنا هي بناء المهارات لديهم، والتي تمكنهم من التعامل مع مشاعر الملل، مهارات التفكير ومهارات التواصل ومهارات الإبداع ومهارات التكيف ومهارات التطوير والتغيير، ثم ندربهم عليها بخلق تحديات أمامهم وإرشادهم إلى كيفية التعامل معها وتخطيها. وعندما يصر بعدها التلميذ أو الطالب على التذمر من الملل هنا يكون قد اتخذ القرار بألّا يفعل شيئا، بل قرر أن يلعب دور الضحية، وينتظر الحل أن يأتي من خارج ذاته! كأن يستخدمه كورقة ضغط على المعلم كي يتراجع عن طريقة التقييم والتقويم ليراعي أن ما يقدمه قد تسبب في ملل هذا الطالب، وعليه أن يدفع الثمن، ويخفض من التقييم حسب المستوى المطلوب إلى المستوى الذي يناسب حضرة جناب التلميذ! وقد يستخدم الابن هذه الورقة مع الأبوين، ليتم الرضوخ، وبالتالي تلبية طلبات صاحب السعادة بمزيد من المشاركة في الفعاليات خارج المنزل، أو شراء مزيد من الألعاب، أو البرامج الترفيهية لمساعدته على التخلص من هذه المشاعر التي أحدثها نقص لدى ولي الأمر في تهيئة الحياة الملكية لابنه أو ابنته!

رضخنا في الماضي، فشعر هذا الذكي بالنصر، وبات يتفنن في تمثيل صور الضحية التي تئِنّ من وطأة مشاعر تخنق وتعيق التحرك أو حتى التفكير، ولهذا يجب التّبطح على الكنبة، أو الارتماء في أحضان الفراش حتى يأتي الفرج! وأكثر وسيلة تحول رأس الأم أو الأب إلى ساحة طبول تضرب لحنا مزعجا ومكررا.. هي الزَّنّ! لا يسمح صباحا مساء وعصرا وعشاء بغير عبارات «مليت، ملل، أفّ... إلخ»!

وهنا يجب التحرك واتخاذ خطوات حازمة وصارمة، فالملل من أمامنا والملل من خلفنا، والملل سوف يحاصرنا إذا لم نرفع سلاحنا ونصبه في مقتل لكي نرتاح، وبالتالي نستطيع أن نستمر في مشاغلنا اليومية وأدوارنا.

كيف نفعل هذا؟ بسيطة، نقلب الطاولة عليهم، بمعنى لا نتركهم في مسارهم هذا، ولا نتغاضى أو نتجاهل، بل نجعلهم يواجهون مللهم بأنفسهم! تحدث إليهم عما يملكونه من مهارات وقدرات وأشياء وفرص، افتح الحوار، ولكن كن حذرا بأن مَن تواجه ليس سهلا، ويعرف من أين تؤكل الكتف، فجيل هذا العصر الحديث إذا أردنا أن نصفهم بشيء وصفناهم بالذكاء، فما يمر عليهم يوميا من معلومات وحوارات، ومحاولات التجريب المصاحب أو الملتصق بطرق تجنب العقاب بشتى الطرق، خاصة في العالم الافتراضي الذي فتح على مصراعيه أمامهم، ووجدوا أنفسهم يكبرون وهم في أحضانه، جعل منهم خبراء في التصيد والتحايل، ومن ثم التصويب للإصابة في مقتل! هنا يجب الحذر من أن يديروا الحوار ويحشروك في زاوية الشعور بالذنب! ببساطة قل لمن يشعر بالملل من الأولاد: أنت تملك ما يمكنك من الخروج من هذا الملل، أرني ماذا أنت فاعل؟ ولا تتوقع أن أخرجك أنا، إن دوري قد انتهى عندما علمتك كيف تبحث وكيف تفكر، ودورك يبدأ مع أول لحظة فراغ لم تستغلها، وتركتها تمر كالماء بين يديك!

قد يسأل البعض: متى أبدأ؟ تبدأ مع أول مرة يذكر أمامك ابنك كلمات مثل «طفش» أو «مليت»، أو أي مظهر لمشاعر الملل التي قد تخرجها قريحته ويجسدها أمامك! وإذا كان قد وصل إلى هذه المرحلة ويعرف ما هو الملل، فإنه بالتأكيد يعرف ما هو عكسه! وهذا العكس هو ما يمتلك مفاتيحه بيده وحده، لهذا اجعل الحوار بسيطا أو مركبا حسب مخزون المفردات اللغوية لدى الابن، ولكن لا تنزل بتوقعاتك عن مستوى المهارات والقدرات التي يمتلكها، وتستطيع أن تخرجه من هذه الحالة إذا قرر أن يمتلك اللحظة ويتحرك!

المهم هنا أن ما ينطبق على ابنك، أو تلميذك في الفصل، ينطبق عليك أيضا في حديثك مع ذاتك كإنسان بالغ راشد، فإذا كان الذي لم «يفقس من البيضة» قادرا على الخروج من حالة الملل بما يمتلك من مهارات وقدرات وفرص مفتوحة أمامه، فبماذا تفكر أنت؟ هل تعتقد بأن حالتك تختلف، أو ربما قدراتك أقل؟! حاور ذاتك التي ربما أصبحت غريبة من كثرة ما تجاهلتها، واتجهت إلى الغير لكي يحدثك عنها، ستجد الإجابة بكل تأكيد، ولا أحتاج لأن أشرح أكثر، أو ربما تحتاج أنت؟!