الشيخ صالح الفوزان معروف بالعلم الراسخ، والعقل الراشد، والولاء الصادق، والثبات على الحق، وهو من أعرف العلماء بالأحزاب والجماعات، مهما رفعت شعار الدين أو الحرية أو العدالة الاجتماعية ونحو ذلك.

لا تهمه الشعارات، ولكنه لتمسكه بالأصول الشرعية ينظر إلى الحقائق والمآلات لا إلى الشعارات والدعاوى.

وقد وفّقني الله للتتلمذ عليه وعلى شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- واقتربتُ منه أكثر خلال إشرافه على رسالتي في الدكتوراه، فكان أعظم صفة لاحظتها في شيخنا: الوضوح والصراحة، والثبات على الحق، وتعظيم شأن الدولة والقيادة، والتحذير من التقليل من شأنهما بأي حال من الأحوال، يقول ما يعتقد ديانةً لله، لا يداهن، ولا يحقد ولا يؤذي أحدا، حتى وإن أساء إليه.

كلماته قليلة اللفظ، لكنها كثيرة المعنى، ولديه إنصاف حتى مع من يختلف معه في مسائل منهجية وعقدية.

كتبت مرة مقالا في الرد على أحد الرموز الكبار لإحدى الجماعات المنتسبة إلى الإسلام خارج المملكة، وذكرت اسمه مع أن عادتي ألا أذكر الأسماء، بل أناقش الأفكار، لكن اقتضى الأمر في تلك المرة ذكر الاسم، ولم أكتب الشيخ فلان، وإنما ذكرت اسمه مجرداً، وأرسلت له ذلك المقال ليطّلع عليه قبل نشره، فرد عليّ المقال بعد قراءته، وقد أضاف قبل اسم المردود عليه كلمة: «الشيخ»، مع أنه يخالفه في مسائل عقدية.

ولما ألّف أحد الدعاة كتاباً فيه مزالق ضد الدين والأمن والولاية، كتب الشيخ صالح الفوزان ردا على ذلك الكتاب جاء فيه: «.. وهو - أي الكتاب المردود عليه- في الحقيقة دعوةٌ إلى الثورة، وشقٌ لعصا الطاعة، وتفريقٌ للجماعة، معتمدا -يعني مؤلفه- على شبهات يستقيها من مقالات أعداء الإسلام، معرضا عن أدلة الكتاب والسنة التي توجب السمع والطاعة ولزوم الجماعة، محاولاً تأويلها وتحريفها»، وقال عن المؤلف: «لما رأى أن الأحاديث الواردة بوجوب السمع والطاعة وتحريم الثورة على الولاة في الإسلام، لما رآها تعترض طريقه فيما ذهب إليه صار يؤولها ويصرفها عن مدلولها كما هو منهج الفرق الضالة».

وبيانه هذا إنما هو نصيحة وديانة لله وصدع بالحق، وإزهاق للباطل، ليس لمآرب دنيوية، أو تصفية حسابات، أو أحقادٍ شخصية، كلا، فما أبعد الشيخ عن ذلك، ولذلك لما مات بعض أقارب المردود عليه، ركب الشيخ سيارته، وذهب معزّيا له، راجيا بذلك أن يهديه الله للرجوع إلى الحق، فأهل السنة يُعظمون الحق، ويرحمون الخلق، بخلاف أهل الأهواء الذين يُبغضون من خالفهم وإن كان مصيبا، ما دام أنه ليس من حزبهم، ويمدحون من وافقهم وإن كان خاطئا ما دام أنه من حزبهم، وهذا من شؤم الحزبية والتحزب.

ومن منهج الشيخ صالح الفوزان -حسب اطلاعي- أنه عند النظر فيما يعُرض عليه، من مسائل شرعية، لا يجامل الراعي، ولا الرعية، بل يقول ما يراه موافقاً للدليل، فإذا اختار ولي الأمر قولاً آخر للعلماء غير قوله، فإنه لا يثرّب عليه، ولا يثير الناس ويشوش عليهم بسبب ذلك الاختيار، وإذا نصح أحداً لا يقول نصحتُ أو كتبتُ ولم يُستجَب لي، لا يقول ذلك إطلاقاً.

وقد قال أحد الكتاب -وهو خالد السيف- والذي ذكر أنه يخالف الشيخ صالح الفوزان، وأنه من مدرسة غير مدرسته «كما ذكر عن نفسه»، وصف شيخنا صالح الفوزان، فكان مما قاله: «ثمة شيء واحد لو لم يكن صالح الفوزان يتوافر إلا عليه لكان خليقاً بأن يُحب من أجله، وأن يُمحض بسببه نُبل الإجلال. وذلك نظير ما كان للفوزان من علامة فارقة بات يعرف بها أيا يكن حجم اختلافك معه».

هذا الـ«صالح» -يا من تشغبون عليه من كلتا الطائفتين- إنما يتوافر على الصدق، وما فتئ ينفق حياته في سبيل تحريه ابتغاء أن يكتب عند الله صادقا.

ومهما يكن من أمر، فحسبي أني قد بلوت شيئا مهما من خبر الفوزان -وذلك من لدن ناسه وأقرانه وتلامذته- فألفيته في «الشماسية» مسقط رأسه هو ذاته في «معهد بريدة العلمي» إذ لم يبرح الصدق، وما كانت «الرياض» لتهبه لونا آخر، أو إن شئت توصيفا أليق لحاله فقل: إن «الكرسي» الذي غشيه مرارا لم ينبت له لسانا آخر غير الذي كان ينطق به قبلا.

صالح إذن كان ابن مرحلة واحدة وحسب، ذلك أنه امتلك وجها واحدا، وحظي بعباءة واحدة، ودان لله تعالى بولاء واحد، وعاش محبا لكنف واحد، ولم يتقلد برقبته إلا بيعة واحدة، في حين تكاثرت من حوله الوجوه، واختُطف الناس في ولاءاتهم و... و...!.

لعل فيما مضى إجمالا أبين عنه تفصيلا بالتالي:

1ـ كان «الفوزان» ولم يزل بعد في معزل عن وضر دنس الأدلجات وما كانت تفعله في العادة من شر مستطير يوهن الإيمان والعلم معا، إذ تنأى بصاحبها في الغالب عن موافقة الحق بينما تسوقه ظلما وعدوانا، في سبل اتباع الهوى والتقوت للدنيا بالكذب.

2ـ منذ الاقتحام الآثم للحرم المكي -جناية جهيمان ورفاقه- حتى آخر ما طال هذا البلد المبارك من أحداث فتن التكفير والتفجير، والفوزان لم يحفظ عنه سوى قول واحد ورؤية شرعية ثابتة. وهاهنا ربانية المواقف التي يصاحبها السداد جراء الصدق.

3ـ لم يستعْدِ السلطة على من يختلف معهم أو أن يشغب عليهم، على الرغم من أن مخالفيه كثر، وليسوا طيفا بل أطياف وطرائق قدد، منهم من تربص به الدوائر.

4ـ لا تكاد تفتقده صحافة دون أن يعبأ بمكان نشر مقالته، وذلك لأنه حفي ببث ما يعتقده ديانة فيما يرومه من إبراء الذمة وفق مقتضى فهومه، مما جعلنا نقرأ الفوزان بوصفه كتابا واحدا بمتنه وهامشه، بينما اضطربنا بالمرة في قراءة «الآخرين» ممن لهم أكثر من متن، أما هوامش متونهم فحدّث عن عددها كثرة ولا حرج.

ولئن كان الفوزان كذلك، فإنه سيبقى الأجدر إجلالا مهما اتسعت رقعة اختلافنا معه، والأليق بأن تحسب له سابقته التي لم يطرأ عليها تلون أو ضبابية، وذلك أنه لم يكن له في اشتغالاته العلمية والدعوية مآرب أخرى«.

ومع أن الشيخ صالح الفوزان قارب التسعين عاما، فهو لا يزال باذلا نفسه نصحا للراعي والرعية، يأتي إلى دوامه كل يوم، ويحضر اللجان، ويستقبل الناس، متحاملا على نفسه، هاتفته قبل أسبوع وكنت في مهمة دعوية جنوب المملكة فقال:»أوصيك بتقوى الله والسمع والطاعة لولي الأمر، اهتمّ بنشر العقيدة الصحيحة، وعليك بالرفق، وإدراك مآلات ما تقول».

حفظ الله شيخنا، واللهَ أسألُ أن يطيل عمره، ويحسّن عمله.