وسط المتاعب والمؤامرات والأعاصير التي يتعرض لها الناس في أوطانهم، أو تتعرض لها بلدانهم تتأكد الدعوة للحمة الوطنية والالتفاف حول القيادة، والانتصار على الذين يعتبرون ذلك تسترا على الأخطاء، أو تساهلا في التعامل معها، أو تزلفا للقيادة، أو أولئك الذين لا يفهمون أن من أهم مقومات جمال الأوطان هو أن تقوم على التعددية والتنوع، وهو الأمر الذي كانت عليه دولة الإسلام في عصر الرسول، صلى الله عليه وسلم، التي تجاور فيها الإسلام مع اليهودية والنصرانية، وتجمعت الأديان السماوية، بل حتى بعض الأديان الوضعية كعبادة الأوثان والأصنام، ولم يمنعهم ذلك من أن يستظلوا بظل دولة واحدة، وقانون مدني خالد، وضعه لهم صلى الله عليه وسلم، في وثيقة اعتبرها علماء التاريخ والحضارة أول قانون مدني في البشرية، وهو الذي عرف بــ «وثيقة المدينة»؛ فبعد أن كانت الدول متحدة العرق والدين، كفارس والروم وغيرهما، جاءت دولة الإسلام لتجمع تحت ظلالها المواطنين مختلفي العقائد والأديان بلا حرج، يشملهم جميعا قول الله العظيم: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.

«حب الأوطان من الإيمان» عبارة خالدة، وترجمتها عمليا أمر لازم، ولا تكون الترجمة صحيحة إلا بالإخلاص للوطن، والتفاني في الذود عنه، والتضحية في سبيله بكلّ عزيز، لأن الأمان الذي سيحققه الوطن للإنسان لا يقدر بثمن، ولأن الخير الذي سيتحصّل عليه سيُنشئ حُرمة مقدسة بينه وبين ووطنه، ستحيي فيه (القومية الطبيعية) الصادقة لوطنه، وهي تلك التي تتجلى في حب الجميع للوطن؛ بكل لهجاته ومعتقداته ومذاهبه وتاريخه وثقافته وسماته، وعندها سيفهم الناس ما قيل في أدبيات الهند: «حرمةُ بلدك عليك مثل حرمة أبويك؛ لأنّ غذاءك منهما، وغذاءهما منه»، وسيعي الكل سلوكيات النبي الأعظم، صلى الله عليه وسلم، عندما خرج من مسقط رأسه قائلا: «إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولو تركت فيك ما خرجت منك»، وستنهزم فورا (القومية الإيديولوجية)، التي تكره الاختلاف والتنوع والتباين في الألوان والألسنة، وكأنها لم تقرأ قول العزيز القوي: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}؛ فالاختلاف قدر إلهي، وبدونه يحصل الاضطراب، وتفوت المطالب، وينعدم التفكر، ويغيب الاعتبار.

أختم بأن كثيرا من المندسين يحاولون إيجاد فجوة بين الدين الذي لا يعارض التنوع والتعدد، وبين الوطن، ويستميتون بكل قواهم في إحداث انفصام بين الوطن والمواطنين، بطرق كثيرة متناقضة، وأحيانا متقاطعة؛ ففريق يجعل الوطن ملكا له ولأفكاره هو فقط، ويحرمه على غيره، ويجعل حدود وطنه على ما يعتقده، وفريق يجعل الوطن حفنة تُراب، والنتيجة المترتبة على هذا وذاك هو أن يُنظر للوطن نظرة دُونية، يترتب عليها سهولة التفريط فيه، مع إضعاف أو إلغاء للولاء، والانتماء، وهو ما لا يستطيع الوصول إليه الوشاة المتربصون من الداخل والخارج بجمال المشهد المتنوع لمملكتنا السعودية، والذي يأتي كنتيجة طبيعية لقيادة راشدة، نهج راعيها وولي أمرها أبقاه الله: «التصدي لأسباب الاختلاف، ودواعي الفرقة، أو التنافر، بين مكونات المجتمع، والقضاء على كل ما من شأنه تصنيف المجتمع، بما يضر بالوحدة الوطنية».