«التجربة خير برهان»، مقولة تتكرر في حياتنا، وتتعلق بمقارنات لأعمال نظرية قد تكون جزءًا من يومياتنا العادية،

أو تعكس توجهات تنظيرية لم تختبر نتائجها عمليا، أو أنها ترتبط بدراسات علمية وأبحاث متخصصة، تكون فيها التجربة هي الفيصل بعيداً عن التخمين، الذي كثيراً ما تثبت الوقائع العملية ضعف نتائجه التي استندت إليه، وتكشفها التجربة والممارسة. لم تكن التجربة مقياسا للتقويم، وليدة العصر الحالي، إنما هي أسلوب انتهجه العلماء على مر التاريخ في بقاع الأرض، فكانت الموروثات الاجتماعية والفكرية التجريبية هي التي تم إثبات مصداقية نتائجها عملياً، وهي التي خلّدها التاريخ، لتكون قاعدة تتراكم عليها التجارب البشرية اللاحقة، لتستفيد منها الأمم التي تسعى نحو الحقيقة الدقيقة. اتجهت كثيرمن دول العالم المتقدم إلى سياسات الخصخصة كنهج تقويمي لسياساتها وبرامجها، ولتنفيذ مشاريعها التنموية في محاولة للنهوض بمستوى الأداء، ولتحسين مخرجات مؤسساتها، سواء أكانت تتعلق بموارد بشرية أم بمنتجات مادية أم بكليهما معاً، لتكون تلك القطاعات شريكاً في التنمية المستهدفة، والتي تستظل جميعها تحت مظلة الدولة الراعية لتلك السياسات المنفذة بما يخدم تطلعاتها التنموية، في إطار من الأنظمة والقوانين والتشريعات التي تكفل المنفعة العامة، وليُسهم الجميع في حفظ المستحقات والالتزام بالواجبات المطلوبة منه تجاه الوطن، بمقدراته وبمسؤولياته نحو المواطنين وبما يأملونه من منجزات. للخصخصة معايير وأُسس علمية ومؤسسية تحكمها وتُنظمها، في بلورة مشروعها الإداري والتنفيذي والمالي، ويمثل برنامجها التنموي المنضبط صورة من المنجزات الوطنية التي تستهدف الدفع نحو تحفيز الأفراد والجماعات للاستثمار في الموارد الوطنية، كوسيلة لتنمية رأس المال الخاص، وللمساهمة في تنويع القاعدة الاقتصادية للإنتاج الوطني، وكشريك في التنمية، التي ينعكس مردودها إيجاباً على التنمية المستدامة الشاملة.

نجاح الخصخصة في دول العالم المتقدم الذي يتحمل فيه القطاع الخاص حمِلاً كبيراً من مسؤوليته الوطنية، يتم في إطار منظومة من الحزم المؤسسية التشريعية، المرتبطة بنظام الدولة وإشرافها المباشر على مدى قانونيته وجدواه وحجم ومستوى مردوده عليها، وذلك لا يعني بالضرورة نجاح تلك البرامج من الخصخصة في دول أخرى من العالم تفتقد لتلك القوة في الأنظمة والتشريعات، ولتلك القدرة المتمكنة والشفافة في المتابعة لمستوى المنجزات في إطار من الحوكمة والمساءلة، التي تضع المصلحة الوطنية في قمة الاعتبارات المسؤولة. وعليه فإن عدم نجاح الخصخصة في تحقيق المستهدفات الوطنية الشاملة في أي مشروع كان، يتطلب مراجعة جميع برامجها المؤسسية وحوكمتها في إطار من المساءلة النزيهة الشفافة، والتي تُلزمها بأن تجعل مقدرات الوطن ومصلحته العامة فوق كل مصلحة خاصة، لا تستشعر مسؤوليتها الوطنية وتتجاهل دورها التنموي المأمول. وحيث إن التعليم والصحة يعُدان من أهم مكونات معايير التقييم الدولي، لمستوى منجزات التنمية البشرية المحققة في دول العالم على اختلاف مستوياته الحضارية، ولكونهما القاعدة التي منها نحصد ثمار التنمية البشرية الفعلية، ومن خلالها يمكن تحسين مستوى دخل الفرد، الذي يمثل المعيار الثالث في التقييم التنموي للمجتمعات البشرية، وبه يمكن تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي العام، فإن ضمان نجاح المؤسسات المرتبطة بتلك المعايير التنموية المتعلقة «بالتعليم والصحة» بدايةً، يتطلب ضبطها تنظيمياً ومؤسسياً بما يكفل مستوى منجزات تتواءم وتطلعات الوطن، لتكون شريكاً فعلياً في تحقيق التنمية المستهدفة، وإلا فإنها ستكون وسيلة عكسية قوية التأثير في هدم وتبديد كل ما ينفق تجاهها من جهود ونفقات، وما يبذل نحوها من محفزات وتسهيلات. ولأن «التجربة خير برهان» لمدى نجاح مسيرتنا نحو الخصخصة، فإن تجربتنا في «التعليم والصحة» لتؤكد ذلك، وذلك لا يعني بالطبع أن مشروع الخصخصة فاشل في برنامجه التنموي، أو أن نجاحه غير مضمون بصفة العموم، فهناك استثناءات، والدليل نجاح بعض المشروعات في كلا المجالين، كما أن نجاحه في دول العالم المتقدم الضابط لتلك البرامج في إطار من الأنظمة والتشريعات والحوكمة، ليؤكد أن الخصخصة، برنامج فاعل إذا تم ضبطه.

وعليه فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكن أن يُعوّل على القطاع الخاص لأن يكون شريكاً فعلياً في التنمية الوطنية، في ظل حرية غير مسؤولة وضعف في الأنظمة الضابطة لأدائه؟! وهل يمكننا دعم التوجه نحو الخصخصة للتعليم والصحة، في ظل ما شهدناه من مستوى تفاعل وطني في الرخاء والشدة معاً؟!، وهل هناك إشراف مؤسسي رسمي فاعل على القطاعين - التعليم والصحة - باستثناء منح الرخصة التجارية والدعم الحكومي لهما؟!

أثبتت التجربة أن التعليم الخاص لم يرق بعد لمستوى المنجزات الوطنية في كثير من مخرجاته، على الرغم من استفادته من المحفزات، كما أكدت التجربة أن المؤسسات الصحية الحكومية أو الجهات الحكومية الأخرى (العسكري والحرس)، هي من يُعوّل عليه في الشدة والرخاء في تحمل مسؤولية الرعاية الصحية الفعلية المسؤولة -وإن كانت هناك استثناءات-، إلا أنه بالمقارنة مع القطاع الصحي الخاص، الذي تنخفض فيه المشاركة الوطنية إلى نسبة لا تتعدى 3% في كادره الصحي، فإنه يمكننا تقويم حقيقة تجربتنا نحو الخصخصة في التعليم والصحة بنزاهة وشفافية تخدم المصلحة الوطنية، وبما يتطلب إعادة النظر والمراجعة لكثير من سياساتنا نحو الخصخصة ومدى جدواها سواء على مستوى الأداء أو المخرجات والمنجزات، بل وفي مستوى استشعارها لشراكتها الفعلية المطلوبة في تحقيق التنمية الوطنية وتطلعاتها بصفة العموم، وبمشاركتها في معالجة ومواجهة ما نتعرض له من تحديات مختلفة، والذي يحتاج لشراكة مجتمعية تتعاون فيها جميع الأطراف المؤثرة والفاعلة في خدمة المجتمع.