لا أدري لماذا تذكرت قصيدة الشاعر الإنجليزي ديلان توماس وهو يخاطب والده على فراش الموت، حينما جلست أفكر بما تعلمناه من هذه المحنة العالمية التي تمر بها جميع شعوب العالم دون استثناء! هو كان يريد أباه الذي كان يراه ذاك المدرس والأب العملاق ألا يستسلم للمرض ويقاوم الموت الذي كان يحوم حوله في انتظار أن يأخذه، أما أنا أريد أن نقاوم ظلام المرحلة وأنا أرى النور في آخر النفق وأريد أن نصل إليه وقد تغير الكثير بداخلنا إلى الأفضل، وما المقاومة هنا، بالنسبة لي، سوى التحول من «الأنا» إلى «نحن».

إن من التحديات الكبرى لأي مجتمع الحفاظ على التوازن ما بين «الأنا» بمعنى المصلحة الذاتية، والتي بلينا بها مع التطور الحضاري، وبين «نحن» بمعنى الصالح العام الذي نسينا بخضم الحياة أننا ننتمي للإنسانية قبل أن ننتمي لمجتمعنا. نعم نفكر بكيفية التميز والإبداع ولكن يجب ألا ننسى أننا دائما جزء من مكون أكبر ننتمي إليه مسؤولين عن مصلحته أيضا، لأن سلامته من سلامتنا كيفما فكرنا وكيفما حسبنا.

كنا وآمل ألا نستمر نفكر أكثر بحقوقنا من مسؤولياتنا، ماذا سيعود علي؟ وبماذا سأخرج من الأمر؟ وكيف سأستـفيد وأرتقي؟ الكل يجري في طاحـونة الحياة خـلف مصالحه: أنا وبعدي الطوفان!

إن الأوقات الصعبة تجمعنا، وقد رأينا ذلك في أحداث من التاريخ عندما ضرب الطاعون أو اشتعلت الحرب في منطقة ما كيف أن الناس تجمعت لكي تساعد ووقفت لتواجه بقلب وجسد واحد، وحين خرجت من الأزمة كيف أنهم عملوا على بناء مجتمعات تخدم مصالح الجميع، وذلك ظهر من القرارات والتغيرات التي صدرت ما بعد الأزمات، ولكن دائما ننسى ونعود أدراجنا إلى حالة «الأنا» مع الرخاء ونبدأ بالابتعاد عن مصالح المجاميع والتركيز على المصالح الشخصية!

هذه الأيام رأينا تغييرات في وعي المجاميع، انتهت سلطة مشاهير برامج التواصل الاجتماعي على تنوعها، وبدأ التركيز على من هم أبطال المرحلة: رجال الدولة من رجال أمن وأطباء وممرضين، ووقفت الجماهير تحيي مجهوداتهم وتضحياتهم بشتى الطرق المتاحة، نعم رأينا وربما ما زلنا نرى بعض السلوكيات الشاذة من التركيز على الأنا بين الفينة والأخرى، مثل الهجوم على المتاجر الغذائية ومتاجر الكماليات وشراء كلما تقع عليه الأيدي، ونعم رأينا من يتحدى أنظمة الحظر ليخرج ويسخر منها أو يقلل من شأنها إما من خلال نشر مقاطع على النت أو من خلال رصد عنتريات الجهل والتخلف، ومنهم من يعتبرها مصادرة للحرية الشخصية! أي حرية؟! وهنالك تعريض حياة الآخرين بل البشرية للخطر! مع الحرية هنالك مسؤولية ولا يمكن للأولى أن تستقيم دون تواجد الثانية! وبالمقابل رأينا وقوف الناس مع بعضها البعض وارتفاع أعداد المتطوعين في تجميع وتوزيع الغذاء على المحتاجين من أسر أو من كبار السن، الذين لا يستطيعون التحرك من منازلهم لشراء الدواء أو الغذاء، لقد عجت مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع التوعية عن الفيروس بطرق سهلة وبسيطة وبعضها أيضا لجأ إلى الطرق المسلية والمضحكة فقط من أجل إضافة بعض الترفيه لتخفيف التوتر مع التوعية، لقد أخرجت لنا المحنة مبدعين كما أخرجت لنا من اهتم بالحفاظ على إنسانيتنا.

أرجو من الله تعالى أن نخرج من هذه الليلة المظلمة طالت أم قصرت بمشاعر تضامن قوية تعيدنا إلى التواصل مع إنسانيتنا، أن نتواضع أولا وندرك أننا وبكل ما توصلنا إليه من علم وتكنولوجيا لا نستطيع أن نواجه مخلوقات مجهرية من مخلوقات الله إن هاجمتنا، بغض النظر عن كيف خرجت أو كيف وصلت، وأن ندرك أننا في الوطن رغم تعدد الثقافات والخلفيات لكل منطقة نشكل وحدة واحدة، ما يصيب جزءا يؤلم ويؤثر في الآخر، وأن نستمر في التواصل مع الآخر بغض النظر عمن هو بالنسبة لنا، المهم أنه إنسان، أن نستمر بمد الأيادي والتعاون والوقوف في صف واحد لنبني ونرتقي ونشعر بمعاناة الآخرين، ونعمل على تخفيف الألم، أن ندرك أن أي محنة لا بد أن تنتهي كما علمتنا قصة سيدنا يوسف في القرآن الكريم، والأهم أن نعمل على المحافظة على حياة الآخرين من خلال إدراك أن الحماية متبادلة: أنت تحميني وأنا أحميك.

وفي النهاية آمل أن نكون قد تعلمنا أن المسؤولية هي أن نهتم بأرواح الآخرين كما نهتم بالحفاظ على أرواحنا، ولنذكر ونتدبر بقول الله تعالى: «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» سورة المائدة - الآية 32، وبهذا نخرج إلى زمن جديد نقف على مشارفه صفا واحدا في معالجة تبعات ما سيأتي من إرهاصات الأزمة.