نقتل قيمة الجمال إذا قيس بمقياس الحق فقط، أو بمقياس الخير فقط، علماً بأن (الحق المطلق والخير المطلق والجمال المطلق) لا يكون إلا في أفعال الله فقط، وما عداها من أفعال البشر ليست إلا (حق نسبي، وخير نسبي، وجمال نسبي) فكيف نجد من يسير على هذه البسيطة، وهو يرى أن الحق الذي ينطق به، هو الحق المطلق على رؤوس سبعة مليارات إنسان، وأن الخير الذي يفعله هو الخير المطلق على رؤوس سبعة مليارات إنسان، وأن الجمال الذي يدّعيه هو الجمال المطلق على رؤوس سبعة مليارات إنسان، أدعياء (المطلق) موقدو حرب ودعاة فتنة باسم (الحق والخير والجمال) ينتظرون المصاقيع ليفجروا هنا ويقتلوا هناك، فيظهروا أمام العالمين كم هم موغلين في الباطل والشر والقبح.

يجب أن يخرج وهم (المطلق) من أفعال البشر، لأنه لا يكون إلا في أفعال (الله) سبحانه وتعالى فقط، وما عداه بشر يخطئون ويصيبون، يتحاسدون ويتباغضون، يتعصبون ويتنابزون مهما رفعوا (المصاحف) على الرماح، (يتدافعون) كديالكتيك فكري إذا زاد الوعي بقيمة الإنسان، وديالكتيك دموي إذا انخفضت قيمة الإنسان.

الجمال لا يظهر إلا في مجتمع يتحد فيه إيمان (الحق النسبي) مع (الخير النسبي) لتظهر الحرية المسؤولة التي تراعي نسبية الحق عند هذا بالنسبة إلى الحق عند ذاك، وتراعي الخير الذي عند هذا، بالنسبة إلى الخير الذي عند ذاك، كتكامل اجتماعي بنّاء، رغم اختلاف المذاهب والأعراق والألوان، لتتحقق الحرية في إطلاق المواهب والملكات في كل اتجاه.

تظهر حقيقة (الحضارة) في اكتمال (البنية التحتية للإنسان) ويقصد بها (المكونات المعنوية للقيم النسبية المترابطة التي توفر التعامل الاجتماعي الحر لتمكين أو استدامة أو تحسين ظروف الحياة المعنوية للفرد) وهذا التعريف موازٍ لمعنى (البنية التحتية للمدنية) التي تعني (المكونات المادية للأنظمة المترابطة التي توفر السلع والخدمات الضرورية اللازمة لتمكين أو استدامة أو تحسين ظروف الحياة المجتمعية)، ولهذا فإن اكتمال (البنية التحتية للإنسان) في ألمانيا بعد الحرب، هو ما جعلها تنهض رغم تدمير البنية التحتية لمدنيتها في الحرب العالمية الثانية، وبالمقابل فإن دولاً أخرى عندما اهتزت بنيتها التحتية المدنية عادت مئات السنين للخلف لضعف بنيتها التحتية للإنسان، والعراق خير شاهد، فحتى هذا التاريخ ما زال الخلاف على قضايا (الحق المطلق) الذي تقوده العمائم واللحى، غافلين عن (الحق النسبي) لصناعة حضارة تليق بعراق خمسة آلاف سنة، بدلاً من عراق الفرق والمذاهب التي لم تنجب سوى الحجاج والسفاح وصدام.

الحضارة (إنسان) لا يكفي فيها (عمران) المدنية، إن فقدت السعي الدؤوب نحو أفق القيم (النسبية) التي لا يحدها حد، فمهما ركضنا باتجاه الأفق فسيبقى هناك أفق جديد، وكذلك القيم (الحق والخير والجمال) تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والأشخاص والنيات، فما تراه حقا في بلدك قد يكون باطلا في بلد آخر، وما تراه خيرا في بلدك قد يكون شراً في بلد آخر، وما تراه جميلاً في بلدك قد يكون قبيحاً في بلد آخر، المهم أن العالم قد اتفق على (نسبية) القيم في (الحق والخير والجمال) لتحقيق معنى (المواطن) وبدون هذه النسبية كحق للفرد وسط المجتمع، يتحول المواطن إلى قاتل أو مشروع قاتل لمواطن آخر تحت شعار (الحق والخير والجمال) في الدين أو العرق أو اللون، فيسير البلد إلى هاوية الحرب الأهلية دون أن تشعر.

عندما نسمع فيروز تغني فهل نحكم على أغانيها بمقياس الحق، أم بمقياس الخير، أم بمقياس الجمال؟ عندما نقرأ قصائد أبي نواس فهل نحكم على القصائد بمقياس الحق، أم بمقياس الخير، أم بمقياس الجمال؟ عندما نرى لوحة فنية لويليام إيتي، فهل نحكم عليها بمقياس الحق، أم بمقياس الخير، أم بمقياس الجمال؟ كل الفنون تقاس بمقياس الجمال فقط وضده القبح، ولهذا فأغنية مايكل جاكسون (الأرض) فيها من الجمال ما لا تجده في أغان وأناشيد عربية كثيرة.

عندما تمر بك عجوز تحمل في عنقها صليباً، وتمد يدها بالسؤال، فهل تحكم على قرار العطاء والمنع وفق مقياس الحق أم مقياس الخير، أم الجمال؟ عندما تسكن في تورونتو فهل تسكن بجوار عربي مسيحي يترنم دائماً بأبيات المتنبي والبردوني في كل لقاءاتك به، أم تسكن بجوار أعجمي مسلم، يلقي السلام بعربية معطوبة، وبعدها يرطن بلغة فرنسية أو إنجليزية لتتحدث معه بالوسيط اللغوي الذي تتقنه؟، هل تعتمد في قرار الجوار على معيار الحق أم الخير أم الجمال؟ أحياناً هوس المساطر في القيم مرض نفسي بسبب تربية قاسية قامت على (الحق المطلق) فتتورم الأنا العليا بشكل فج، لكن التجربة الإنسانية حسمت قضية (المعاملات) بين الناس وفق معيار الخير في المعاملة، وليس معيار الحق، فالتاجر البوذي الأمين السمح، خير من تاجر مسلم بلا أمانة ولا سماحة، وإذا اتسعت دائرة الحق على حساب دوائر الخير والجمال، فإن الحياة تضيق بأهلها، ففي كل منعطف أو حتى ربع كلمة تُنصَب محكمة للحق والباطل، فتذبل المواهب وتموت الملكات ويظهر (الإنسان الخائف) الذي لا يعرف حقاً ولا يفعل خيراً ولا يرى جمالاً، يعيش فقط طفولة المفاهيم التي تقيس كل ما حولها وفق منطق (الثواب والعقاب) ولن تنمو الشعوب في مفاهيمها، دون حرية تعطيها فضيلة التجريب، في طريق النضج على مستوى القيم الإنسانية، فالحق واجب، بينما الخير رضا، أما الجمال فسعادة، وأحكم الناس من أعطى الحق حجمه الطبيعي في فضاء القيم، فلم يجعله يتغول على الخير والجمال، فيسرق الرضا والسعادة من روحه وحياته وحياة من حوله دون أن يدري، أما الخائفون فدون أن يشعروا يفقدون إنسانيتهم التي عمادها الحرية والكرامة، فحرية بلا كرامة انحلال، وكرامة بلا حرية استعباد.

قد تستغربون (كرامة بلا حرية) كيف تكون؟، إنها تلك التي كان يعيشها عبد المنزل في أمريكا كخادم في البيوت فيلبس لباساً غالياً من عطايا السادة، كان يفاخر على عبيد الحقل الأجلاف بإكسسوارات ملابسه الفاخرة غافلاً عن حقيقة واقعه القبيح فيما يسمى (كرامة العبد).

الأحرار يشبهون الحضارة، إرادة من حديد، دليلها العقل المبدع، ونظرها تجاوز درب التبانة، فطوبى لحضارة (الحق والخير والجمال) بمعناها الإنساني، وعتبى لمدنيةٍ تشيد المباني وتهدم المعاني.