نسمع ونقرأ للصين بعيون غيرها، لم نسمع منها، وهنا محاولة مبتسرة جدا لعرض «انطباعات» عن كتاب «أفكار حول تعميق الإصلاح»، ترجمته «مصلحة التأليف والترجمة المركزية بالحزب الشيوعي»، وهو عبارة عن خطابات الرئيس الصيني في اجتماعاته المختلفة، وقد تم جمعها وتأليفها كما هو موضح في أول الكتاب من قِبل «مكتب دراسات الوثائق التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني»، وكلمات الرئيس تعتمد في قوتها على الروح الجماعية الصادرة عنها، فهي لا تمثله كشخص، فهناك سبعة هم أعضاء اللجنة الدائمة باللجنة المركزية للحزب، هم من يحكمون الصين، ويرأسهم «شي جين بينج» ولكن ليس له حق إقالتهم إلا بقرار من اللجنة المركزية مجتمعة، وقد تميزت خطاباته في الكتاب بالنعومة والتهذيب، مع الصرامة الضمنية في ثنايا كل كلمة قيلت.

هذه المسميات «الحزبية واللجنة المركزية»، في الحقيقة لا علاقة لها بشيوعية أوائل القرن الماضي. فروسيا القيصرية التي احتضنت الكنيسة الأرثوذكسية وثار عليهما الحزب الشيوعي الذي كان بوتين عضوا فيه، أواسط السبعينات، أصبحت الآن تنقل على لسان بوتين نفسه التهاني بعيد الميلاد للكنيسة الأرثوذكسية، وعليه فالصين الشعبية التي ثارت على كل تقاليد الإمبراطورية الصينية وتقاليد كونفوشيوس نراها الآن تستعيد هذا التراث باحترام وتقدير، في كل الخطابات التي تنص على «اشتراكية ذات خصائص صينية»، مع الإحساس بمآسي الثورة الثقافية الكبرى في ستينات القرن الماضي.

على مستوى القضاء والتشريع، يقول الرئيس الصيني: «إزاحة العقبات... من النواحي الثلاث، المتمثلة في ضمان ممارسة السلطة القضائية والنيابية وفقا للقانون وبصورة مستقلة وعادلة، وإكمال آلية ممارسة السلطة القضائية، وإكمال وتحسين نظام الضمان القضائي لحقوق الإنسان».

على مستوى اقتصاد السوق «الاشتراكي» يوضح الرئيس الصيني حداثة التجربة بقوله: «إن تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح وتنمية اقتصاد السوق الاشتراكي هو أمر لم يتطرق إليه أسلافنا، ولم تجربه سائر الدول الاشتراكية، والسبيل الوحيد أمامنا هو الحصول على المعارف الحقيقية من خلال الممارسة، أي من خلال العمليات المتكررة المتمثلة في الممارسة والمعرفة وإعادة الممارسة وإعادة المعرفة، وهكذا تكون عملية الإصلاح والانفتاح في الصين عملية جمعٍ للتجارب وتلخيصها وتعميمها على التوالي بلا انقطاع...».

ثم يوضح رؤيته الأبعد على مستوى التبادل التجاري كشأن إستراتيجي ثابت «إن بناء حزام اقتصادي على طول طريق الحرير القديم، وبناء طريق حرير بحري للقرن الحادي والعشرين، هما قراران إستراتيجيان عظيمان تبنتهما اللجنة المركزية للحزب، في إطار التخطيط الشامل للوضع العام للشؤون السياسية والدبلوماسية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية... ويمكن القول على نحو حيّ إن بناء الحزام والطريق المذكورين، يهدف إلى إضافة جناحين لنا جميعا مثل طائر رخ عظيم، وإذا تم بناؤهما على نحو جيّد فيمكن لطائر الرخ أن يحلق أبعد وأعلى، إن ذلك وعد هام قطعناه حيال المجتمع الدولي، ولا بد من الوفاء به تماما»، مع الإشارة -في خطاب آخر ألقاه في كلية أوروبا في بروج البلجيكية- إلى أهمية الشراكة بين الصين والاتحاد الأوروبي في هذا الشأن، وصولا إلى أن تصبح الصين والاتحاد الأوروبي، محركا مزدوجا للنمو الاقتصادي العالمي.

بالنسبة للجيش الصيني، فقد كان الرئيس شفافا إذ يقول في خطاب وصف -من قِبل لجنة التأليف- إنه بالغ الأهمية «بيد أن التناقضات والمسائل ذات الجذور العميقة، مثل النظام غير العلمي لإدارة المسؤولين الكبار، ومنظومة قيادة العمليات القتالية المشتركة غير المتكاملة والهيكلية غير المعقولة للقوى، والتخلف النسبي لإصلاح السياسات والأنظمة، ما زالت في انتظار حلول فعّالة، وهذه المسائل قد قيّدت من حيث الأساس بناء الجيش واستعداده للنضال العسكري، لجميعنا الشعور نفسه بأن جيشنا لن يكون قادرا على خوض المعارك وكسبها، بدون الإصلاح». وللتذكير، الخطاب في 2013.

الكتاب فيه ثيمة تتكرر على لسان الرئيس في كل صفحة تقريبا «الإصلاح والانفتاح»، وصولا إلى طرح فكرة «تحديث نظام حكم الدولة، والقدرة على حكمها» كشيئين لا يغني أحدهما عن الآخر، مع إيضاحه أنهما المفتاحان لكل التحديثات بأنواعها «الزراعية، الصناعية، التكنولوجية، العلمية، الدفاعية».

ما وصلني من الكتاب أن الصين تعيش ورشة عمل «صارمة» على جميع الأصعدة الرأسية والأفقية، وما قرأته عموما يوحي لي بأنها دودة تأكل بنهم كل ما حولها من أوراق الأشجار، في سبيل دخول الشرنقة لتولد فراشة تحقق رفاه شعبها داخل الصين، ولكنها على مستوى العالم لا تريد أن تكون أقل من «طائر الرخ»، لكن على مهل وبلا ضجيج.

أمريكا ترغب في استدراج الصين لدخول مرحلة الفراشة بشكل أسرع من الطبيعي، ولو بفك الشرنقة قسرا، بينما الصين تريد استكمال مراحلها، وولادة الفراشة الصينية قبل أوانها سيجعلها موجودة لكن ضعيفة طوال حياتها، وهذا ما ترغبه أمريكا، بينما أوروبا وفق ما نراه من مصالح طريق الحرير، لن تسير بكامل طاقمها وفق النغمة الأمريكية تماما، بقدر ما تحاول التماهي مع الصين في مصالحها الاقتصادية.

الصين لا تريد الانجرار إلى سباق تسلّح، بل مشغولة بعرض نفسها كتاجر ذكي لا يريد مواجهة «كاوبوي»، يسبق الجميع في نزع المسدس من غمده، وأكثر ما أربك الـ«كاوبوي» أن أزياءه وقبّعته وحتى حدوة حصانه، كلها مصنوعة في الصين، ولم يبق له سوى مسدسه من صنع يديه، والعالم يراه عاريا، لكن المسدس يجعلهم يصمتون كما في حكاية هانس اندرسون «ملابس الإمبراطور الجديدة»، باستثناء الطفل/‏ كوريا الشمالية، التي تقول دائما: «الإمبراطور عاري».

أخيرا: لا ننسى إشكالات الصين «الحرب الاقتصادية مع أمريكا، مشكلة تايوان، بحر الصين، التبت، كوريا الشمالية، التفاوت الطبقي، وشينجيانج»، ودون أن ننجر لقراءة غير محايدة «بين أمريكا الغرب وصين الشرق»، فإننا نحتاج -مثلا-لمنهج موضوعي يجمع بين إصلاحية توين تاورز في أمريكا، والذي يستوعب 7 آلاف سجين، وسجن رايكرز آيلاند في نيويورك الذي يتسع لما يزيد على 10 آلاف سجين مقارنة بإصلاحية شينجيانج، دون أن نتعامى طبعا عن معتقل جوانتانامو، أو نتجاهل الهند كمعادل موضوعي أكثر جاذبية.

ويبقى السؤال: هل تنساق الصين للجاهزية قبل اكتمال القوى، أم كما يكرر الرئيس الصيني في بعض خطاباته «علينا عبور النهر بهدوء، ونتحسس الصخور تحتنا». إنها الصين الشعبية، مزيج من اشتراكية دينج شياو بينج، وتقاليد كونفوشيوس، وهل هناك أشد من امتزاج الهيراركية بالبطريركية؟ والكثير الكثير من العقبات والشوك في الداخل والخارج.