يعود نجاح الصحوة في التأثير على كافة شرائح المجتمع، رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا وشبابا ومراهقين، في مختلف مناطق ومدن وقرى المملكة، إلى استثمارها كافة وسائل التواصل وأدوات الانتشار التي ساهمت مجتمعةً في نشر

ما كانوا يخططون له دعاتها من نشر دعوتهم التي كان ظاهرها دعوة للعودة إلى الدين الصحيح وفي باطنها أهداف أخرى تتمثل في الهيمنة على المجتمع، والقيام بما يشبه عملية غسل الدماغ له، تمهيداً لما وراء ذلك من تطلعات سياسية كشفت عن وجهها خلال حرب الخليج الثانية، وتكشفت أسرارها فيما تكشف من علاقة للصحوة ودعاتها بجماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الأحزاب التي كانت تعمل وفق أجندة محكمة وطويلة المدى وعابرة للحدود والدول.

استفادت الصحوة من المنابر التي كان دعاتها حريصين على استثمارها، وهي منابر توزعت بين المساجد وحلقات الدرس وجماعات تحفيظ القرآن والمخيمات الصيفية والمدارس والجامعات، وتغلغلت داخل المجتمع منتهزة أي تجمع كحفلات الزواج ومراسم العزاء التي لم تكن تخلو من حضور للدعاة سواء من المدعوين لهذه المناسبة أو تلك أو ممن كانوا يحضرون تطوعا محيلين مناسبة الزواج أو العزاء إلى مناسبة للدعوة والتذكير.

واستفادت الصحوة من المنشورات التي كانت تحرص على طباعتها وتوزيعها والنصح بتصويرها وتوسيع دائرة انتشارها عند أبواب المساجد وفي المدارس والجامعات، إلى جانب الكُتيبات التي كانت تُباع بأسعار زهيدة أو تُوزّع بالمجان. غير أن أهم وسيلة مَكنت الصحوة ودعاتها من التغلغل داخل المجتمع تمثلت فيما عُرف بـ«الشريط الإسلامي»، الذي تضمن خطبا ومواعظ الدعاة المؤسسين لخطاب الصحوة ومن تابعهم ولحق بركابهم من الدعاة الذين ساهموا في انتشار «الشريط الإسلامي» وتعميق أثره في المجتمع.

كانت الصحوة قد رسمت لنفسها هدفا يتمثل في الوصول إلى كافة مناطق المملكة ومدنها وقراها وكافة شرائح المواطنين، ولم يكن ذلك بالأمر السهل، إذ لم تكن الخطب ولا المنشورات قادرة على تحقيق ذلك، ليس ذلك لأن المملكة مترامية الأطراف فحسب، وإنما لأن الأُمية لا تزال منتشرة في بعض مناطقها خاصةً بين كبار السن من الرجال والنساء، ولأن الإقبال على القراءة ليس مضمونا، كما أن مشاغل الحياة لا توفر لشرائح كثيرة من المواطنين وقتا للقراءة، وعثرت الصحوة على الحل السحري الذي يضمن لها ما تريده من انتشار، وهو الاعتماد على الأشرطة المسجلة التي تُمكِّن لخطبةٍ يلقيها أحد دعاتها من على منبر مسجد في جدة أن يدخل شريط تسجيلها أقصى بيت على الحد الجنوبي، ولدرسٍ يلقيه داعية آخر في الرياض أن تتحلق لسماع تسجيله أسرة في أقصى قرية في الشمال.تنبه دعاة الصحوة مبكراً لما يمتاز به الشريط المسموع من استهلاك في السوق المحلية، وما يحققه ذلك الاستهلاك من تأثير، وما يشكله من مردود مادي، فانتشرت الأشرطة الإسلامية على النحو الذي أوضحه إسماعيل أحمد النزاري في كتابه «جمهور الأشرطة الإسلامية ومكتباتها في المملكة العربية السعودية: دراسة ميدانية»، حين كتب: (انتشرت مكتبات التسجيلات الإسلامية في المملكة بشكل سريع ومتنامٍ في السنوات العشر الأخيرة، والتف حولها جمهور واسع، وتحتوي أكبر المكتبات في المملكة على أكثر من خمسة عشر ألف موضوع، ويستهلك الجمهور يوميا آلاف الأشرطة استهلاكا علميا وثقافيا وروحيا، حيث تدل الإحصاءات على أن المملكة في عام 1409 استهلكت 90 مليون شريط مسموع غطى الإنتاج المحلي منها 15 مليون شريط فقط، وأظهرت أن المبيعات في هذا القطاع حققت حتى نهاية 1987 مبلغا قدّره 160 مليون ريال، وأوضحت الدراسة التي أصدرها مركز البحوث التابع لغرفة جدة، أن أشرطة الكاسيت في السعودية تحظى بإقبال شديد، نظراً لرغبة الأفراد في اقتناء أكبر عدد منها، وذكرت الدراسة، أن متوسط الاستهلاك في السنة للأعوام الخمسة الماضية بلغ 86 مليون شريط). وكشف الباحث نفسه عن دور الشريط الإسلامي في نشر فكر الصحوة، موضحاً ما كانت تتسم به من محاولة تغيير كافة جوانب الحياة (يزداد الإقبال على الشريط الإسلامي مع انتشار هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ويكثر المستمعون إليه من الصغار والكبار والرجال والنساء ومن كل فئات الجمهور الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وتزداد في الوقت ذاته موضوعاته التي اتسعت بسعة الإسلام جوانب الحياة كلها من سياسية واقتصادية وعلمية واجتماعية)، ويضيف قائلا: (أخطأ من اعتقد أن الأشرطة الإسلامية هي أشرطة دينية فقط، بل هي أشرطة تعبر عن الحياة كلها بصورة إسلامية حقة). وبصرف النظر عما كان يدّعيه دعاة الصحوة من أن دروسهم وخطبهم ومواعظهم التي كانوا يستخدمون الأشرطة في نشرها تعبر عن «الإسلام الحق»، فإن النص السابق يكشف عن الفكر الشمولي للصحوة، بحيث أصبح دعاتها هم العلماء الذين يتحدثون في السياسة والاقتصاد والعلوم والاجتماع، وأصبحت دروسهم وخطبهم منهجا معلنا لأجندة خفية تسعى إلى فرض سطوتها وهيمنتها على كافة جوانب الحياة.

وقد اعتبر عايض القرني، الشريط الإسلامي (هو صوت الإسلام الناطق، ورسول الصحوة الأمين، وإعلامها الحي)، وأشار إلى ما يتميز به من حيث إنه (يحمل الصوت المؤثر والنظرة الحية، وأنه سهل التداول، يسمعه المتعلم والأمي والحاضر والبادي)، ولذلك طالب بإلحاح (أن توجد تسجيلات إسلامية في القرى ومجامع الهجر)، ووجه أهل العطاء والبذل (أن يساهموا في إهداء الشريط الإسلامي، فإهداؤه دعوة بذاتها)، واقترح (أن يحرص المسلم على سماع شريط نافع كل يوم) لم يكن ذلك التغيير الممنهج للمجتمع عبر الأشرطة الإسلامية خافيا، غير أن التحذير منه كان يتم على استحياء، ليس ذلك خشية من عنفوان دعاة الصحوة فحسب بل من الدخول في مواجهة مع الرأي العام الذي استدرجته الصحوة فأصبح مدافعا عنها ومناضلا ضد من يشكك في أهدافها ومقاصدها، وحين تصدى الدكتور غازي القصيبي لما أسماه «فوضى الكاسيت» في مقالاته عن حرب الخليج، وجد نفسه في عين عاصفة وحرب شرسة شنها عليه دعاة الصحوة في خطبهم التي تحولت بدورها إلى أشرطة يتم تداولها ومنها خطبة «سهام في عين العاصفة» لعايض القرني، ومحاضرة «السكينة السكينة» لناصر العمر، ومحاضرة «الشريط الإسلامي ماله وما عليه» لسلمان العودة، وهي الخطب والمحاضرات التي قام القصيبي بالرد عليها واحدة واحدة في كتابه «حتى لا تكون فتنة»، وإذا ما أردنا أن نتبين حجم سطوة الصحوة وتأثيرها، فإن علينا أن نتذكر أن تلك الخطب التي ألصق فيها أولئك الدعاة شتى التهم بالقصيبي ظلت رائجة متداولة، بينما كان كتاب القصيبي في الرد عليها ممنوعا من الفسح ومحجوبا عن التداول.

كانت الأشرطة وسيلةً لنشر فكر الصحوة، كما كانت أداةً لتصفية دعاة الصحوة لخصومهم في معركة لم يكونوا يتورعون فيها عن استخدام كل الوسائل وإلصاق كافة التهم بمن يحاول كشف ضحالة تفكيرهم وفضح خافي مخططاتهم، أو على نحو ما وصفها الدكتور خالد الرفاعي، في سلسلة مقالاته الرائدة عن مشايخ الصحوة حين أوجز رأيه في معركتهم مع القصيبي قائلا: (هي معركة حقيقية إذن، مورس فيها الحدسُ، والتخمينُ، والظنُّ السيئ، والتشويه المطلق، والكذب أيضاً). وفي حقيقة الأمر، لم تكن تلك هي صفة أشرطتهم التي تعرضوا فيها للقصيبي فحسب، بل كان ذلك ديدنهم بدءا من تشويه المجتمع ووصفه بالفساد وانتهاءً بالتشكيك في قرارات الدولة وفتاوى هيئة كبار العلماء، مروراً بإلصاق تهم العلمانية بالمثقفين والانحراف بأجهزة الإعلام والمؤسسات الثقافية.