مَن هو «عابر» الذي جعله النسابون العرب جدًا أعلى للنبي محمد ﷺ؟ ومَنْ هو «إسماعيل» الأب الأعلى للعرب؟ ومَنْ هو«أخنوخ» الذي زعمت الموارد العربية الإسلامية أنه «النبي إدريس»؟ وماذا عن «مجاعة أرض كنعان» التي تحدثت عنها التوراة، بينما سمّتها المصادر الإخبارية العربية القديمة «مجاعة مكة»؟ ومتى افترق إسماعيل، ومعه العرب، عن بني إسرائيل؟ ولماذا ظلت قوائم الأنساب العربية «الإسلامية» مُتضمنةً الأنساب نفسها تماما كما وردت في التوراة، بحيث صار «عابر» و«شالح» و«ناحور» أجدادًا قدماء لنبي الإسلام محمد ﷺ، وللعرب كذلك؟.. بهذه الأسئلة وسواها يقدم «فاضل الربيعي» كتابه «شقيقات قريش.. الأنساب والزواج والطعام في الموروث العربي»، معتمدا عددا من النصوص الأصلية للأساطير والمرويات والأخبار ، لتمكين القارئ من الاطلاع المباشر عليها، وتجربة الاحتكاك بها وتأويلها - حسب قوله - دوّن الجزء الأعظم منها في الهوامش على متن النص كنص موازٍ.

المجاعات الكبرى

من خلال دراسة قوائم وسجلات الأنساب القديمة، ونقدها الجماعات والشعوب والقبائل «العربية» الأولى، مثل العماليق وعاد وعُبَيْل وأُمَيْم وجَشَمْ، وسواها ممن ورد ذكرها في الكتاب المقدس لليهودية، وكتب الإخباريين والنسابين العرب والمسلمين على حد سواء، يدقق الكتاب، الصادر عن «دار الرافدين»، فيما اصطلح عليه الدارسون بـ«الأقوام التوراتية»، وهو تعبير أو اصطلاح شائع ومتداول، بالكاد يصف الحقيقة التاريخية عن هذه الشعوب والجماعات التي عاشت ذات يوم بعيد في إطار وحدة إيكولوجية شديدة التراكب والتعقيد، ولعبت فيها أنظمة الطهارة والطبخ والطقوس دورا حاسما في تسريع درجة تمايزها وشدّته، ثم انفصالها عن بعضها.

وينطلق الكتاب من فرضية أنه حدثت ـ ذات يوم بعيد ـ سلسلة من المجاعات الكبرى، أسفرت عن هجرات وتبدّلات حاسمة في حياة شعوب وقبائل كانت تقطن في مكان واحد، وأنَّ هذه الجماعات تركت أثرها في ثقافة كل شعب أو قبيلة أو مجموعة بشرية في صورة أسماء لآباء وجدود ومواضع، وحتى في أسماء هذه الجماعات والقبائل، وأيضا في صورة شخصيات وأبطال لا وجود لهم، ومع هذا ضمتهم سجلات الأنساب وشجراتها.

منطق الخطاب الأسطوري

يورد الكتاب أن سائر الشعوب والأسباط والقبائل العربية الأولى في طفولتها البعيدة عاشت في بيئة واحدة تمتد من جنوب غرب الجزيرة العربية حتى شمالها وصولا إلى تخوم الشام وضفاف المتوسط الجنوبية، أي ما يزيد على الرقعة الجغرافية التي تسميها التوراة «عَرْبَة»، وهي البيئة نفسها التي رأت فيها التوراة والكتب الإخبارية القديمة والمدوّنات حاضنةً طبيعيّةً للتجربة التاريخية لقبائل كبرى مثل العماليق (العمالقة في التوراة، والعماليق في المصادر العربية)، وهم حكّام «مكة»، ومثل عَبْيَل وجُرْهُمْ وطَسَمْ وجَشَمْ وسواها. ولفت الكتاب إلى أنّ التوراة، شأنها شأن الإخباريات العربية القديمة، تروي التاريخ بشروط إنشاء الأسطورة، لذا نُظِرَ إلى نصوصها، باستمرار، على أنّها تَعُجُّ بالأساطير، بينما يمكن، على العكس من ذلك، الافتراض أنّها تعج بـ«الإخباريات» عن التاريخ، وهذه بطبيعتها السردية تنشئ الخبر التاريخي وفقا لمنطق الخطاب الأسطوري لا وفقا لمنطق التاريخ الفعلي.

ثلاثة كيانات

لتأكيد الوعي الجَمْعِي بوجود حقيقي لوحدة قديمة ضمت سائر الجماعات والشعوب الأولى كانت قد انعقدت ذات يوم، ثم انفرطت وتلاشت بتلاشي وجودها التاريخي تحت ضغط جملة من البواعث والعوامل والانزياحات الثقافية، يرى الكتاب أن قوائم الأنساب العبرية والعربية القديمة المتماثلة والمتطابقة، فعليا، في أسماء الآباء والجدود، أي: المتواصلة والمُنْشَبِكة في نطاق القرابات الأسرية البعيدة، ولكن الأساسية، كما هي الحال في تنسيب العرب لأنفسهم كجماعة منحدرة من نسل «فالغ» و«ناحور» و«إبراهيم»، فإنّ هذه الجماعات تباعدت تدريجيا عن خطوط الانتساب القديمة لمصلحة تبلور مستمر في الهويات الثقافية القبلية. بيد أن العرب، مع هذا، احتفظوا بذكرى تلك الرابطة المنسية جاعلين منها نسبا مقدسا، اتصلت به سائر أنسابهم في شمال الجزيرة العربية وجنوبها، بما أن كل ماض غابر له مكانةٌ أثيرة، مقدَّسة عند مُتَذكريه ورواته وكتابه. ولأن انفراط وحدة تلك الجماعات، وتحللها واندثار لغتها المشتركة، تسارعا في أنماط التمايز وأشكاله وصولا إلى إحداث افتراقات نهائية وحاسمة بين القبائل، فقد احتفظت كل جماعة بسجل خاص بها عن هذه الذكرى، يتضمن النسب البعيد نفسه، لذا وضع القحطاني جنوب غرب الجزيرة العربية في قوائم أنسابه وشجراته اسم «عابر» (عيبر) كأب أعلى لـ«قحطان»، وصار العدناني شمال الجزيرة العربية، على غرار شقيقه وغريمه القحطاني، يفعل الشيء نفسه بوضع اسم «عابر» (عيبر) كجد أعلى لـ«عدنان»، وهكذا تشظت الجماعة القديمة إلى ثلاثة كيانات قائمة بذاتها: «بنو إسرائيل» الذين سَيُعرفون بـ«العبرانيين» مجازا لانتسابهم المباشر للسلالة الإبراهيمية، وبالتالي تكريس احتكارهم الفلكلوري لاسم الجد الأعلى المشترك، والعرب القدماء الذين سوف يتم تنسيبهم إلى «قحطان»، ويعرفون مجازا بـ«العرب العاربة» استلهاما لأسطورة استضافتهم تجربة إبراهيم التوحيدية، ثمّ ابنه ونسله من بعد، وأخيرا العرب المُسْتَعرِبة التي ستعرف نفسها بـ«العرب العدنانية» انتسابا لـ«عدنان».

شظف العيش

يشير الكتاب إلى أن هذا التمايز الذي حدث في وقت ما بُعَيْدَ انفراط عقد الجماعة الواحدة عنى توزّعا جديدا، منبثقا في الأصل عن الطفولة الجماعية للوحدة «العبرانية القديمة» التي ضمت هذه الشعوب والقبائل، وهو ما يمكن فهمه في سياق التجاذب التاريخي بين سلسلة من الأنظمة: التنقل والاستقرار - المحظور والمباح - ثقافة طعام قديمة من عصر المجاعة، وثقافة طعام جديدة في عصر انحسار المجاعة وتراجعها - الزواج الطبيعي والزواج المحرم في عصر انحسار المجاعة وتراجعها - الزواج الطبيعي والزواج المحرّم - الإبل والخراف الوبر والمَدْر، متناولا المغزى الحقيقي للانتساب الأسطوري إلى جدّين كبيرين بالنسبة إلى العرب، وموضحا قوة زخمه ودوره الحاسمين في بلورة الهويات القبلية مع الإسلام، ومعترفا بأننا نجهل، على وجه التحديد، الكيفية التي عملت فيها آليات الانشطار والتمايز داخل هذه الجماعات في عصور القحط الكبرى، حيث ضربت المجاعة كل الأرض، من «أرض كنعان - التوراة» إلى «أرض مكة - الإخباريات العربية»، وصولا إلى بابل ومصر، كما في السجلات التاريخية والأساطير، ولكننا يمكن أن نستدل إليها من خلال إشارات الإخباريين العرب، ومن مطابقة رواياتهم مع إشارات مماثلة في التوراة، على الأقل قصد مقاربة هذا التمايز مقاربة ضرورية، ولكن حذرة في الآن نفسه، مع تمايزات مماثلة تدافعت بقوة الزخم المدهش نفسه حين بدا أن الإسلام المنتصر يمثل، وعلى أكمل وجه، الحلقة الأخيرة والنهائية في عصور الترحال والتنقل، بل إن الفتوحات الإسلامية بدت -آنئذ- كما لو أنها الموجة الأخيرة التي أوصلت الجماعات العربية إلى شواطئ الاستقرار والمدنية بعد عصور من الترحال وشظف العيش.

عصر الجدب والقحط

لا يتردد الكتاب في توصيف الإسلام بأنه كان يُعرِّف نفسه دون تكلّف بوصفه «الفاصل الأخير - الكورالي» بين البداوة بنمطها القديم وبين المدنية الجديدة، وبين الجدب والوفرة، المحظور والمباح، مُعيدا أنماط الزواج والطبخ وأنظمة الطهارة إلى دائرة التمايز الأول، الفطري والغريزي. لذا انشطرت قريش العدنانية استطرادا في التمايز إلى «هاشم» و«أميّة» مثلما انشطر القحطانيون بين «حمير» و«همدان»، ولكن هذه المرة على أساس ثقافي جديد ومختلف لا يبدو أنّه يتصل برابطة من نوع ما بالتمايزات الثقافية القديمة. مع ذلك، لا يعدم المرء رؤية الدور الذي لعبته ثقافة الطعام في تشكيل المضمون الجديد للتمايز، فأشعار العرب مع الإسلام الأموي والعباسي تضمنت هجاءً متبادلا تُعيبُ فيه هذه الجماعة جماعةً منافسة بأنها كانت جائعة، أو أنها تتناول طعاما هو في الأصل من أطعمة عصر المجاعة، حتى أن ربيعة سميت «ربيعة الجوع»، بل إن القحطانيين عابوا على قريش تمسكها بـ«السَّخينة»، وهي مريقة من عصر الجدب والقحط. كان المطبخ -آنئذ- مع الإسلام يدخل كعامل حاسم في مواصلة التمايز ومفاقمته داخل التجمعات والتحالفات الجديدة للقبائل، حتى أن «فزارة»، وهي قبيلة كبرى من قبائل العرب، تعرّضت لتلطيخ سمعتها وسمعة المتحالفين معها إثر هجاء شعري يتهمها بأكل «أير الحمار».

ويخلص الكتاب إلى أن قراءة مغايرة للأساطير العربية القديمة والتوراة يمكن أن تكشف أشياء ثمينة قد لا يجدها، أبدا، علماء الآثار في باطن الأرض مدفونة تحت طبقات سميكة من التراب، ذلك أن الجماعات القديمة امتلكت حس وغريزة دفن التاريخ الخاص بها داخل نسيج معقد من السرد الأسطوري والتاريخي ربما بأكثر مما امتلكت الحس والغريزة أو حتى الرغبة في خزن هذا التاريخ تحت الأرض.