بعد يومين بالتمام، وتحديدا الأربعاء القادم، سيبدأ الموعد المعتاد لكثير من الناس في إحياء سنّة الاعتكاف، والتي تأتي هذه السنة مختلفة عن سابقتها من السنوات، وعلى من يريد إحياءها أن يتنازل عن رأيه، فيما يخصّ مكان أدائها، وسآتي على هذا لاحقا.

بدايةً، أقول -للتذكير- إن الاعتكاف يقصد منه أن يمكث المعتكف في المسجد ويقيم فيه، بِنيّة مقصودة، وهي الطاعة لله، والحكمة منه تصفية مرآة العقل، واستغراق الوقت في العبادة، وإبعاد النفس عن شغل الدنيا.

وحكمها في رمضان أو غيره -بصوم أو بدونه- سُنّة من السنن التي يثاب المسلم على فعلها، إلا أن يوجبها المرء على نفسه بنذرٍ ونحوه. ويدل على سنيّتها اعتكاف النبي -صلى الله عليه وسلم- ومداومته على ذلك، تقرّبا إلى الله تعالى، وطلبا لثوابه، واعتكاف أزواجه -رضي الله عنهن- معه وبعده. وآكد أوقاته العشر الأواخر من رمضان، بدليل حديث: «من أراد أن يعتكف، فليعتكف العشر الأواخر»، وأقله لحظة، أو ساعة أو ساعتين، أو يوم أو نصف يوم، أو يوم وليلة، أو أكثر، حسب اختلاف الفقهاء، ومما يدعم أن أقله لحظة، تلك اللوحة الشهيرة، عند باب السلام وباب الرحمة، بالمسجد النبوي الشريف، والمكتوب فيها «نويت سنة الاعتكاف».

عودا على مقدمة المقال، الذي ألمحت فيه إلى مكان الاعتكاف، أذكر أن الفقهاء اختلفوا في مكان اعتكاف المرأة، وأي المواضع أفضل: هل مسجد حيّها، أو مسجد بيتها، أي موضع صلاتها فيه؟، وذهب السادة الأحناف، والإمام الشافعي -في رأي قديم له- إلى أفضلية الثاني.

أما الرجل، فالقول السائد هو أن اعتكافه لا يصح إلا في المسجد، وهو قول رغم شهرته ورجاحته عند كثيرين، إلا أنه لم يحظ بقبول كل الفقهاء.

فالإمام ابن حجر، ذكر في كتاب الاعتكاف، في الجزء الرابع من شرح صحيح الإمام البخاري، عن السادة المالكية: «يجوز للرجال والنساء، الاعتكاف في مسجد البيت، لأن التطوع في البيوت أفضل»، وكرر هذا القول أيضا الشيخ الشوكاني في الجزء الرابع من كتاب نيل الأوطار، وكذلك قاله القاضي حسين المغربي في الجزء الخامس من كتاب البدر التمام، الذي شرح فيه كتاب بلوغ المرام، وكل ما تَقَدم كُتبٌ مشهورة، ومعتمدة عند طلاب العلم، بغض النظر عن مذاهبهم ومدارسهم في المعتقد أو الأفكار.

كلّ الحمدِ لله على تيسيره الحصول على أجر سُنّة الاعتكاف، وخير دليل على ذلك ما تقدم من أقوال يسّرت على الراغب والراغبة القيام بذلك في غير المسجد، من قبل «كورونا»، وخلاله، وبعد انقضائه -بحول الله- ولعل أكبر المستفيدين هم أولئك الذين فرّغوا في بيوتهم مكانا مخصصا للعبادة «مصلى البيت»، يصلون لله، ويذكرونه -سبحانه وتعالى- ويستغفرونه، ويتلون كتابه، ويسألونه أن يبلغهم ليلة القدر، ويعظم لهم الأجر.