حسب الاجتماعي ماكس فيبر لتعريف الدولة الحديثة فهي (منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين الأراضي)، وهو ما يخالف التصور الأممي العبثي الذي لا يعترف بالحدود ولا بالحكومة المركزية التي تملك سيادتها على أراضيها كافة. فالدولة تزيد وتضعف قوتها داخل أراضيها، فعند ظهور تيارات أحزاب ممانعة - مثل حزب الله في لبنان - تزداد الدولة ضعفاً في احتكار سلطتها وفرض قوتها وسيادتها في حماية سكانها وأراضيها، حتى تصل إلى المرحلة التي تسمى بالدولة الفاشلة، وهي التي تفقد سيطرتها على نطاقات واسعة من أراضيها مثل اليمن والعراق وليبيا في عدة مراحل.

المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي اشتهر بتفسير سقوط وصعود الدول عبر قانون التحدي والاستجابة مع ربطه بالنظرية النفسية للانبساط والانطواء، فالدول مثل الشخصيات، منها الانطوائي أي من ينكفئ على نفسه وقد ينهار أمام التحديات، ومنها الانبساطي أي من يتقبل الأزمات بفاعلية وقد يزداد بعدها قوة.

في ظل الأزمات التي عصفت بالمنطقة، سقطت دول وتماسكت دول وازدادت بعض الدول قوة، فالعراق وليبيا وسورية أمثلة للسقوط الذي حدث بعد عواصف الفوضى الخلاقة، والاحتلال الأمريكي والعبث الإيراني والتركي، أما مصر فكادت أن تسقط ولكنها قدمت تجربة لعودة تماسك الدولة، أما السعودية فقد أصبحت القوة القيادية الأولى في المنطقة.

لو تأملنا جيداً في هذه التجارب فهناك عدة عوامل لتماسك الدول، لا يمكن أن نربطها بالقيادة أو الحكومة ولا حتى بالحظ ولا العامل الاقتصادي المهم وحده، فالنفط والغاز ثروتان تتفجران في العراق وإيران وليبيا والجزائر وفنزويلا ونيجيريا وغيرها، ولكن دول مثل السعودية والإمارات هي التي تمكنت من تحويله إلى مصدر قوة سياسية واجتماعية وثقافية، أما العامل السياسي فهو ليس كل شيء فحركة الإخوان تمكنت من حكم مصر لعام، ولكنها لم تصمد بسبب تكاتف الجيش المصري وتكتل الشعب من خلفه وقدرته في إحكام قبضته على كيان الدولة بتعاون النخب كافة، وهذه النخب هي من أطلق عليه الدولة العميقة، وهو المصطلح الذي تم استخدامه سياسياً على نطاق واسع، باعتبار النخب كيانا داخليا عدائيا متآمرا، حيث إن الدولة في كل زمان ومكان لا يمكن أن تتشكل إلا من هذه النخب السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.

أهم عامل لتماسك هذه الدول هو مسؤولية الشعوب وتكتلها خلف القيادة، وهو يسبق العامل الثاني لظهور قيادة أو حكومة قوية مثل القيادة السعودية أو القيادة المصرية أو القيادة الإماراتية، فهذه القيادات لا تتشكل إلا من صميم المجتمع وثقافته، وقد تسبق القيادة مستوى المجتمع ولكنها تنشأ من خارجه، فكل أفراد القيادة يتشكلون من المجتمع وخاصة إذا كانت الحكومة تتشكل من «التكنوقراط» أو التعيين على أساس الخبرة في المجال، كحال الحكومة السعودية.

العامل الثالث هو العامل الخارجي وما يحدث من تحالفات فعلي سبيل المثال كان موقف السعودية بالتكاتف مع القيادة المصرية لإسقاط المشروع الإخواني، موقفاً تاريخياً ألقت فيه السعودية بكل ثقلها الدولي لحماية ودعم النظام السياسي المصري الذي كان يعمل على استعادة كيان الدولة، وهذا العامل نجده أيضاً في حجم التحالفات التي تملكها السعودية وطريقتها في دخول الحروب والمواجهات عبر الحلفاء، سواء في دخولها في اليمن أو قبلها في البحرين وهو ما يزيد من تماسكها الداخلي، بعكس عراق صدام الذي واجه العالم وحده وتصرف وحده واحتل الكويت وحده حتى سقط وحده وانتهى وحده، بعد حصار طويل فقد فيه الشعب رغبته في التماسك معه، ما جعل سقوطه سريعاً ومروعاً.

ما حدث في سورية من حرب أهلية لا يعود أيضاً للتآمر الدولي وحده، فأزمة دخول الإرهابيين والأنظمة المارقة مثل النظام الإيراني وتوابعه الحزبية لم تحدث إلا بعد فقدان الدولة تماسكها مع شعبها ثم سوء تصرف النظام، وهو ما يلقي بالمسؤولية على عاملين، الأول هو مسؤولية الشعب في تطوير أو تغيير سياسة الحكومة ثم مسؤولية الحكومة أو القيادة ودورها في تدمير الدولة عبر سوء التصرف أو الحفاظ على كيانها عبر حسن التصرف مع الشعب ممثلاً بنخبه.

بالمقابل نجد أن السعودية تعرضت لحروب عاصفة ومحاولات التفجير وزرع الخونة والجواسيس عبر تكاتف عدة دول وأنظمة مارقة اجتمعت على طاولة واحدة لمحاولة إسقاط السعودية ولكن دون جدوى، فالقيادة قوية وشعبها يزداد تكتلاً في المخاطر ويعلم أنه المستهدف عبر قيادته، ومع ذلك وبكل أسف ما زلنا نرى من يعتقد أن الحكومات هي العامل الوحيد لسقوط الدول وفشلها وخاصة الأمميين ممن تقوم عقيدتهم على أن الحكومة متآمرة على الشعب في كل ظرف، مهما حققت الحكومة من إنجازات لشعبها. ولو نظرنا لأبوية القيادات في الجزيرة العربية فهي في أغلبها نابعة من طبيعة الشعب، ولو نظرنا لانعدام أو ندرة حالات القمع والتعذيب والاغتيال فهي نابعة أيضاً من طبيعة الشعب، فكل شعب مسؤول عما يحدث له، وكل شعب يشكل حكومته من خلال ثقافته ومعتقداته وسلوكياته، ولو نظرنا إلى ولي العهد باعتباره هبة إلهية لهذا الشعب فهو في نهاية المطاف انعكاس لتطلعات وطبيعة وثقافة فئة كبيرة من الشباب العربي السعودي.