فالأزمات الاقتصادية، إن لم يُستَعدّ لها بما يكفل مواجهة آثارها، فإن نتائجها ستكون وخيمة على الجميع، بما قد يتلف تلفا غائرا لا يدرك علاجه بيسر، ولذلك نتعلم من كتاب الله في ذكر هذه القصة من سورة يوسف، أمورا عدة، مثل أهمية الإعداد السليم لمواجهة الأزمات قبل حدوثها، ورسم الخطط الصحيحة لتجاوزها، وأن نجاح ما يوضع من خطط مرهون بصدق استقراء الإشارات المنبئة بنذارات للأزمات، لينتج عن هذا الاستقراء والخطط قرارات مهما ارتفع مستوى صعوبتها وألمها، فإنها ضرورية لتجاوز المحنة إلى حال المنحة بعدها.
وفي القرآن الكريم -كما هو في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم- أمثلةٌ تترا، نقرأ فيها ما يفيدنا في طرق التعامل السليم لمواجهة الأزمات، بتحمل متطلبات تجاوزها من قرارات، وإنك لترى من تطبيقات إجراء الخطط المستثناة، واتخاذ القرارات غير الاعتيادية، حاضرة في حياة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بما يتعلق بسلامة مسيرة الدولة والمجتمع.
ومن ذلك، أنه حينما توافد المهاجرون -رضي الله عنهم- من مكة إلى المدينة، فإن الحاجة للتعامل مع الواقع الجديد يقتضي اتخاذ ما يناسب الوضع من تشريع، فكان تشريع المؤاخاة بين أفراد المجتمع الجديد معالجا لما قد يحصل من فروقات وعدم استقرار، مما لا يشجع الناس على الهجرة المهمة في نشأة الدولة الإسلامية الأولى، فكان القرار وكان القبول من الأنصار -رضي الله عنهم- ليقدموا صوراً من التفاني والتضحية على نحوٍ لم يحدث في تاريخ أمَّةٍ من الأمم، بما جعل المهاجرين -رضي الله عنهم- ينعمون بالأمان اللاحق، وبالاستقرار المشجع لسواهم أن يلحقوا بهم.
وكي تتضح جسامة نتائج القرار على الفرد المدني، نذكر هنا أن هذه المؤاخاة أعطت للمتآخيَيْن الحقّ في التوارث، دون أن يكون بينهما صلة من قرابة أو رحم، فهي بالفعل تضحية، وهي بهذا تكون أخصُّ من الأخوة العامة بين المؤمنين جميعا. فيقول ربنا عنها: «وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ»، وإذ هو تشريع استثنائي اقتضته ضرورة معالجة الحال لتجاوز الأزمة، فنجد أنه حينما تجاوز المجتمع بأسره مرحلة الأزمة إلى مرحلة التنعم والرخاء، نسخ الله تعالى جزء التوارث من هذا الأمر، وذلك في قوله تعالى: «وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»، مع بقاء العمل بنواح أخرى من عطاءات الأخوة بين المؤمنين، من التسامح والإكرام، والتواصل والنصح، إلى غير ذلك مما لا غنى عنه في قيام أي مجتمع سالما من كل ضر باستدامة، وما أحكم وأعظم الوصف لما حدث في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». فرضي الله عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلنا معهم ممن ينالون رضاه، ويرضون بما يقوي لحمتنا، ويشد عضد ولاتنا في الأزمات.
ولذلك، نكرر القول المشكور من الجميع «سمعاً وطاعة» لكل ما يرى ولي أمرنا -سدده الله ووفقه- من قرارات حكيمة، هي في مآلها -بإذن الله- تأتي لحماية مركبنا من الغرق في بحر الأزمات، واستمرار مسيرتنا في طريق الحق والهدى. والحمد لله رب العالمين.