عرفت البشرية خلال تاريخها الطويل ألوانا متباينة من التعصب: فقد حفظ لنا الشعر معلومات مهمة وقيمة عن التعصب القبلي وسجل التاريخ، وما زال يسجل حالات لا حصر لها للتعصب الوطني أو القومي، وعرف تاريخ الفكر ألوانا من التعصب الديني أو الطائفي، وشهدت المجتمعات، خاصة في عصرنا الحديث، ضروباً متعددة من التعصب العنصري أو العرقي، وفي هذه الحالات كلها كان التعصب يمثل انتماء زائدا إلى الجماعة التي ينتسب إليها المرء، وارتباطا بها يصل إلى حد الاستبعاد التام للآخرين أو كراهيتهم أو التعالي عليهم. والواقع أن التعصب بوصفه ظاهرة بشرية خالصة تنتمي إلى مجال العلاقة بين إنسان وإنسان يمكن أن يعالج بمنهاج وأساليب متعددة تبعا للزاوية التي نتأمله منها، ففي استطاعة علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم البيولوجية، في استطاعة هذه العلوم كلها أن تلقي أضواء كاشفة على ظاهرة التعصب، وأن تساعد الإنسان على إزالة هذه الغشاوة التي أعمت بصيرة البشرية ردحا طويلا من الزمان، ومع ذلك فإن المعالجة الفلسفية لهذه الظاهرة تستطيع أن تكشف عن جوانب خفية وأساسية منها، وأن تزيح النقاب عن تلك البناءات الكامنة التي قد لا ينتبه إليها أي علم من العلوم السابقة حين يستنفد طاقته في معالجة المشكلة من زاويته الخاصة ومن خلال مفاهيمه المميزة، فهناك إذن أبعاد لمشكلة التعصب أعمق من تلك التي تناولها العلوم الخاصة، وحين أقول أعمق فلست أعني بذلك حكما تفصيليا، بل إن كل ما أقصده هو العمق بمعناه الأصلي لا المجازي، أعني عمق القاع بالقياس إلى السطح هذه الأبعاد العميقة التي تكمن من وراء كل معالجة علمية خاصة لمشكلة التعصب تنكشف للتفكير الفلسفي وحده، ربما كان أصلح منهج يتبع في الكشف عنها هو ذلك المنهج الذي أثبت أنه خصب ومثمر في معالجة الموضوعات الإنسانية على وجه التخصيص، وأعني به المنهج الجدلي أو الديالكتيكي. إن التعصب كما هو واضح يتضمن عنصرين: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالعنصر الإيجابي هو اعتقاد المرء بأن الفئة التي ينتمي إليها، سواء أكانت قبيلة أم وطنا أم مذهبا فكريا أو دينيا، أسمى وأرفع من بقية الفئات، والعنصر السلبي هو اعتقاده بأن تلك الفئات الأخرى أحط من تلك التي ينتمي إليها، وقد يبدو من الأمور البدهية أن يكون هذان العنصران متلازمين، إذ إن اعتقاد فئة معينة بتفوقها يعني آليا أنها تنظر إلى الفئات الأخرى كما لو كانت أقل منها قدرا، ومع ذلك فإن هناك نوعا من التميز بين وجهي التعصب هذين على الرغم من ارتباطهما الوثيق ذلك، لأن المشكلة التي عانت منها البشرية طوال الجزء الأكبر من تاريخ التعصب فيها كانت مشكلة الوجه السلبي للتعصب، بل إن مفهوم التعصب ذاته يرتبط في أذهان معظم الناس بهذا الجانب السلبي، فالشخص المتعصب هو قبل كل شيء ذلك الذي يحتقر فئة معينة أو يتحامل عليها، صحيح أن هذا التحامل ينطوي ضمنا على اعتقاد بأنه أرفع من تلك الفئة التي يتحامل عليها أو أنه بريء من نقائصها، ولكن هذا لا يعدو أن يكون اعتقادا مضمرا فحسب، وفضلا عن ذلك فكثيرا ما يكون سبب التحامل على الآخرين هو نوع من الحسد الخفي الدفين لهم، أو الاعتقاد بأنهم يتمتعون بمزايا يعجز المرء عن بلوغها، وعلى أية حال فإن كراهية الآخرين هي الصفة الغالبة على المتعصب، أما استعلاؤه بنفسه فهو صفة ثانوية على الرغم من كونها نتيجة لازمة في معظم الأحيان عن كراهية الآخرين.

فالتعصب إذن هو في أساسه نظرة سلبية إلى الغير، والمتعصب يتجه بتفكيره أساساً إلى الآخرين في حقد أو حسد أو احتقار، ويميل إلى إلحاق الضرر بالغير أكثر مما يميل إلى تأكيد مزاياه الشخصية أو كسب منفعة لنفسه، وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب، إذ إن الجانب الإيجابي في هذه العلاقة الجدلية لا يؤدي بالضرورة إلى التعصب، فتأكيد المرء لذاته أو اعتقاده بسمو الفئة التي ينتمي إليها لا يترتب عليها بالضرورة ازدراء للآخرين، ولقد سمعنا كثيرا عن تلك الفلسفات التي تؤكد الأرستقراطية والاستعلاء، ولكنها ترفض التعصب وكراهية الآخرين بوصفها مظهراً لا يتماشى مع وثوق المرء بنفسه وبقدراته، فالرفيع والنبيل حقاً عند نيتشه لا يكره الآخرين ولا يتعصب ضدهم، لأنه لا يحتاج من أجل تأكيد ذاته إلى مقارنة نفسه بغيره أو التسلق على أكتاف الآخرين، ومن جهة أخرى فإن تأكيد الذات في الفلسفات التي تنحو منحى ديمقراطيا يزداد مع الآخرين والتسامح معهم لا بالتفوق على حسابهم.

ومعنى ذلك أن الوجه الإيجابي في علاقة التعصب، وهو تأكيد استعلاء الذات، لا يمثل جوهر التعصب، وإن النظرة السلبية إلى الآخرين هي الطابع المميز لذلك النوع الشائع من الانحراف.

ولا جدال في أن تلك النظرة السلبية إلى الآخرين ترتكز على اعتقاد بوجود نوع من الشر الكامن فيهم، والذي يبرر به المتعصب تحامله عليهم، ولعل أول ما يطرأ بالذهن هو أن يبادر إلى الكشف عن زيف هذا الاعتقاد بوجود الشر في الآخرين، ويبحث عن أسباب نفسية أو اجتماعية تدفع الناس إلى التحامل على غيرهم بهدف تبرير استغلالهم لهم، أو إيجاد منفذ لشعورهم هم أنفسهم بالإثم أو بالعجز أو بالإخفاق. ومن المؤكد أن ظاهرة التعصب تنطوي على شيء من هذا كله، ولكن العلاقة بين المتعصب وبين من يتحامل عليه هي في معظم الأحوال أعقد من أن تفسر من خلال هذا الفهم الذي يسير في اتجاه واحد، والذي يرتكز على القول بأن التعصب علاقة بين ظالم ومظلوم. وهذه العلاقة المعقدة لا يمكن التعبير عنها، أو فهمها، إلا من خلال منهج جدلي.

ولعل تعقد هذه العلاقة يتكشف بوضوح لو ضربنا لها مثلا مستمدا من بلد التعصب المتسق والمنظم، أعني من الولايات المتحدة: فقد راعني في الأيام الأولى من زيارتي لهذا البلد أن أجد كثيراً من الشرقيين يتحدثون عن الزنوج بنفس اللهجة التي يتحدث بها الأمريكيون عنهم، ويتجنبون الأحياء والمساكن التي يسكنها «الملونون»، مع أن بلادهم الأصلية تتخذ موقفا مستنيرا من مشكلة الاضطهاد العنصري، وتنتقد الأمريكيين البيض انتقادا مرا.