اختلف الفلاسفة والعلماء والفقهاء، قديما وحديثا، حول ما إن كان الإنسان مجبرا على ما يأتيه من أفعال، أم هو حر الإرادة والاختيار؟.

نشأت في التاريخ الإسلامي طوائف متنافسة، بل ومتصارعة، انطلاقا واتكاءً على ذات المفهوم: مفهوم القضاء والقدر. فنشأ ما يعرف بـ«الجبرية»، التي يقول عنها أبو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني، في كتابه (الملل والنحل) إنها تزعم «نفي الفعل حقيقة عن العبد، وإضافته إلى الرب تعالى». وفي الجهة المقابلة لها نشأ ما يعرف بـ«القدرية»، الذين زعموا أن «لا قدر، وأن الأمر أُنُف». ومن بعدهم، جاء الأشاعرة بنظرية تتوسط بين الجبر والاختيار، سموها «الكسب».

الجبر، ثم الاختيار، ثم الكسب، ثلاثي جدلي يتفق مع نظرية الديالكتيك الهيجلية، التي تقول إن صراع المتناقضات يحكم العالم. من المقولة، إلى النقيض، إلى مركب منهما، ولو طبقنا هذا الديالكتيك على مفاهيم الجبر والاختيار والكسب لقلنا:

الجبر: إثبات

الاختيار: نفي

الكسب: نفي النفي (مركب من الجبر والاختيار).

إن السؤال المركزي للمقال هو: هل الإنسان مخير، أم مسير؟

تصدى فيلسوف قرطبة، وقاضي قضاتها، (ابن رشد الحفيد) للجواب عن هذا السؤال العويص، وذلك في كتابه الشهير (الكشف عن مناهج الأدلة، في عقائد الملة)، فبسط القول فيها على نحو جلي وحاسم، إذ عرض أولا الأدلة التي توحي بأن الإنسان مسيّر، ثم ثنى بما يعارضها من أدلة توحي بأن الإنسان، من جهة أخرى، حر مخير.

ومما قاله «هذه المسألة، (= مسألة القضاء والقدر)، من أعوص المسائل الشرعية، وذلك لأنه إذا تؤملت دلائل السمع في ذلك وُجدتْ متعارضة، وكذلك حجج العقول».

من الآيات التي يفيد ظاهرها بأن الإنسان مجبر، قوله تعالى «إنا كُل شَيء خلقناه بقَدَر»، وقوله تعالى «وكل شيء عنده بمقدار»، وقوله تعالى «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير»، وقوله تعالى «ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد»، وقوله تعالى «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين»، وقوله تعالى «فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى». ومن الآيات التي يفيد ظاهرها أن الإنسان مخير، قوله تعالى «أو يوبقهن بمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثير»، وقوله تعالى «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت»، وقوله تعالى «وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى»، وقوله تعالى «أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم»، وقوله تعالى «ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك».

أمام هذه الأدلة المتعارضة، ما هو القول الفصل؟

اقترح ابن رشد جوابا على هذا السؤال العويص، كما وصفه، أحسبه لا يزال هو الجواب المثالي الذي يجمع بين الأدلة المتعارضة، من حيث طبيعة الإنسان.

يبدأ ابن رشد جوابه بالسؤال الاستفهامي التالي «إذا كان الأمر هكذا،(= تعارض الأدلة)، فكيف يُجمع بين هذا التعارض الذي يوجد في المسموع والمعقول»؟

ثم يبدأ الجواب، بتحديد العناصر التي لا بد وأن تلازم الأفعال الإنسانية، وهي:

*الإرادة (إرادة الإنسان فعل شيء ما، أو مباشرة حدث ما)

*القدرة (مواتاة الأسباب الداخلية في الإنسان)

*قوانين الطبيعة (موافقة الفعل للأسباب الخارجية).

وهكذا، فإن قيام الإنسان بأي فعل، إنما يعتمد على إرادته وقدرته من جهة، وعلى موافقة الفعل لقوانين الطبيعة من جهة أخرى.

وهنا يصل فيلسوف قرطبة إلى النقطة المركزية في جواب السؤال العويص، أعني مسألة القضاء والقدر، فيشير إلى أن ارتباط أفعال الإنسان الضروري مع سنن الطبيعة، من خلال عنصري الإرادة والقدرة، هو بعينه القضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده. ويضيف:«وإذا كان هذا كله كما وصفنا، (الترابط الوثيق بين الإرادة والقدرة من جهة، وقوانين الطبيعة من جهة أخرى)، فقد تبين لك كيف يكون لنا اكتساب، وكيف جميع مكتسباتنا بقضاء وقدر سابق. وهذا الجمع هو الذي قصده الشرع بتلك الآيات العامة، والأحاديث التي يُظَنُّ بها التعارض، وبهذا تنحل جميع الشكوك التي قيلت في ذلك».

ولله الأمر من قبل ومن بعد.