لم أنشغل ببعض الأسماء الكبيرة التي استدمجت (درسها اللساني) لتعيد إنتاجه بما يغري بقطعيات فكرية تصنع (إيديولوجيا لغوية) أكثر منها (معرفة علمية)، وكل (فكر مغلق مصمت) يرسم نوافذ مفتوحة على جدرانه لا أتفق معه، ولا أتوهم النافذة المرسومة أنها حقيقة أطل منها على سماء المعرفة، لكن هذا النوع من الطرح أصبح (الموضة الجديدة) لكثير من الكتاب والمشاهير في وسائل التواصل الذين يتصارعون فيما بينهم لاقتسام (المتابعين) من (أرامل وأيتام الصحوة) الذين يبحثون عن حاضنة فكرية تراعي وجدانهم المكلوم بفقد رموزهم بأقل حد من الإضرار بتقاليدهم المصمتة المنغلقة على نفسها، وفي هذا يتنافس خريج السوربون الكبير مع النسقي الضخم في إنتاج خطاب (ديماغوجي) يتكئ على (التحيزات الشعبية المضمرة، معتمدين على مخاوف وتوقعات الجمهور المسبقة)، وبقول أكثر وضوحاً يعتمدون في (تغريداتهم الديماغوجية) على (التحيزات الصحوية المضمرة، معتمدين على المخاوف والتوقعات المسبقة لأيتام وأرامل الصحوة) بذكاء يتناسب وثقافتهما العالية، ومعهم في هذا كثير ممن يعيش (عطش المتابعين) ولم يرتو بعد، ولن يرتوي فالسباق أصبح (جماهير) وليس (سباق تنوير).

ولهذا قررت الانشغال بالبليهي (الأصدق والأكثر إحساساً بمأزق التنوير) فأقول: (علم الجهل) هل هو توصيف انفعالي أم توصيف يبحث في مشكلة علمية، أم ماذا بالضبط؟ لأني باختصار لا أحب (الاستعانة بغموض اللغة لزيادة فوضى الفكر)، فإن كانت مشكلة علمية تحاول تحليل العادات العامة وردود أفعال الأفراد فهي إلى علم الاجتماع وعلم النفس أقرب، وإن كانت مشكلة علمية تحاول المشاركة في صنع المنهج التربوي فهي في صميم علم البيداغوجيا/التربية نفسه، وإن كانت مشكلة علمية تحاول تفكيك الجهل وتحليله لغوياً بغية الوصول إلى معنى أعمق لإشكالية الجهل، فهي مشكلة تنتمي لمنهج الفلسفة التحليلية.

إن كان العلم لا يسمى علماً وفق المناهج الحديثة إلا إذا كان محسوساً يمكن أخذه للمختبر، أو يمكن قياسه التقريبي بالإحصاء أو الرصد التاريخي والدلالي المقارن، أو تحديده بالاختبار التجريبي، مُخرِجاً كثيراً من المسائل الميتافيزيقية من العلم الحديث إلى عوالم الفلسفة القديمة، التي تتكئ على التأمل وتختلف باختلاف الحضارات من شرق وغرب، بينما العلم الحديث يحلل الماء إلى ذرتين هيدروجين وذرة أكسجين، وهذا التعريف العلمي يمكن البناء عليه لاستمطار السحاب أو لتحلية ماء البحر، بينما كلمة الماء وحدها يمكن البناء عليها لكتابة قصيدة شعرية أو ثرثرة فوق النيل.

كلمة الجهل عبارة تكاد أن تكون في فضاء الميتافيزيقا ما لم يتم إنزالها إلى أرض الواقع المادي، فعن أي جهل نتحدث، هل هو جهل (الفرد) بالمعلومات، أم جهل (الفرد) بالمنهج التحليلي، أم جهل (الفرد) بطرق التفكير الفلسفي، أم جهل (الفرد) بتطبيقات كل ذلك على الواقع، وليلاحظ القارئ أني جعلت كلمة (الفرد) بين قوسين، لأن (علم الجهل) معنى مفتوح يحاول الفكاك من سؤال الفرد إلى سؤال الجماعة والعكس، فإن كان كل ما يخص الفرد كفرد لا يخص (علم الجهل) فمعناه أن هذا (العلم) ليس إلا سؤال حضارة بشكل مقلوب، فالحضارة المتقدمة والحية تدرك معنى (جهل العلم) فنجدها تنفق على ما لديها من مراكز الأبحاث والتفكير أكثر مما تنفق على الكنائس، بينما الحضارة المتخلفة لا تعي (جهلها العلمي) فيحصل عندها العكس.

الجهل في ذاته منهج في التفكير (البدائي)، والتفكير البدائي هو الإيمان باستحالة (الهيمنة على الطبيعة)، والحل الوحيد عند التفكير البدائي يكمن في (استجداء الطبيعة واسترضائها) بمسميات وأشكال مختلفة، ولكننا نتفاجأ أن راعي الغنم منذ آلاف السنين كان ينتقي الفحل الجيد ليتحكم في طبيعة المواليد، وقد يستعير فحلاً من بعيد ليتحكم في طبيعة مواليد قطيعة، فهل يعتبر ذلك إشارات أولى لمحاولة الإنسان التحكم في (الطبيعة)؟ وهل من حقنا مصادرة قدرات الإنسان الأول في التفكير فنصفها بالجهل لمجرد أنه يسير وفق (نظام الطبيعة) مستسلماً لقيود (الطبيعة)، بينما (المتفوقون) يعيشون وفق (طبيعة النظام) مستسلمين لقيود (النظام)، فمن منهما أكثر حرية؟!

(علم الجهل) هل هو بحث في معنى (الإنسان البدائي) وما معنى البدائية؟ لأن عالم الأنثربولوجيا الأمريكي أشلي مونتاغيو سيقف بشراسة في كتابه (البدائية) ضد كل من يصف المجتمعات البدائية بمعنى يدل على أنهم (أقل، أدنى، أحقر... الخ) مستشهداً في ذلك على معنى الوعي عند هيغل، ثم مستدركاً في مسألة البدائية بما ورد من ترافعات مبطنة عنها لدى كيركيغارد وهايدغر، فما الذي بقي في صف العلم إن انحاز هؤلاء إلى صف الجهل في كلمة (بدائية)؟

هل الجهل يعني الخرافة والأساطير؟ إذاً فما الذي بقي بعد جيمس فريزر في (الغصن الذهبي) لنكتشف ما تحويه الأسطورة من دلالة نقرأ بها تاريخنا البشري بصورة أوضح.

هل (علم الجهل) يقع عليه ما وقع على الشعر عندما قال فيه عنترة (هل غادر الشعراء من متردم) أم هو بحاجة إلى تفكيك منهجي يتغيا الإمساك بفضاء الفيزيقي بعيداً عن حشويات الميتافيزيقي، كي لا نقع في (العلم الزائف)، وما دام (علم الجهل) يقبل الدحض ويحاول بصرامة تفنيد ذاته، فمن حقه البقاء في أرض (المنهجية العلمية)، ولا أظن رائد (علم الجهل) عندنا يقصد بمصطلحه العربي الدلالة الإنجليزية في كلمة (الأجنوتولوجي)، والتي تدرس لعبة نشر البيانات العلمية غير الدقيقة لصالح الشركات أو الدول بغرض التضليل، فما يقصده أستاذنا الكبير (إبراهيم البليهي) علم الجهل الذي تمارسه بعض الشعوب على نفسها بغرض حماية معتقداتها، بشكل يؤدي لنفس ما تمارسه هذه الشركات والدول بهدف التضليل، أي أن (علم الجهل) البليهي يهدف إلى تعرية المازوخية العقلية لدى بعض الشعوب في استمراء تضليل نفسها بالجهل العادي الذي نلحظه في الفرد قبل التعليم الأكاديمي، والجهل المركب الذي نلحظه في الفرد بعد التعليم الأكاديمي.

ولهذا لاحظ دين كيث سايمنتن في كتابه (العبقرية والإبداع والقيادة) أن التصلب المعرفي والجمود العقائدي ظاهرة ترتفع نسبتها بشكل ملحوظ بين الأميين وأساتذة الجامعة، على عكس ما بين هاتين المرحلتين (الأمية والدكتوراه)، فما بينهما تزيد فيها نسبة الإبداع وروح الريادة لتبلغ ذروتها في الذين دخلوا الجامعة دون أن يكملوا تعليمهم فيها (الأمي والدكتور يقعان غالباً في الدوغمائية/القطعية فيما يعرفون)، فاقدين مرونة الشك كأساس للتفكير النقدي وما يستتبعه من تواضع فكري ومثابرة فكرية.

أخيراً البعض يصفون نظريات البليهي بأنها قائمة على التشاؤم وجلد الذات، متناسين أن شارل بودلير (1821/1867) قرأ حقيقة المشهد الإنساني قبل أكثر من مائة وخمسين عاما، كما قرأه إبراهيم البليهي عندما قال بودلير في اليوميات: (الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة....) والعظماء عند البليهي من يتخلصون من دوامة التلقائية، وقليل ما هم، ويكفي البليهي أنه منهم ما دام وصل به الشعور إلى هذا الحد العميق في أزمة التلقائية (التدميرية).