أريد أن أكتب، نعم أنا أشعر بميل لأن أكتب، ولكني لا أدري ما الذي ينبغي لي أن أكتبه، إني لا أعرف بالضبط هذا الشيء الذي أريد كتابته. ولكن ما هي الكتابة؟ وما نوعها؟ وما الغرض منها؟ هذه التي أتكلم أو أكتب عنها ما المقصود بالكتابة؟.

كتابة حروف جامدة كهذه التي سبقت، أم أن هناك نوعا آخر من الكتابة يشفي ما في الصدر من ألم وشعور ملح نحو الكتابة؟. الكتابة كما أعرفها ويعرفها الجميع، هي تعبير عن فكرة أو جملة أفكار، والفكرة أو جملة الأفكار هي الكلام النفسي الخفي الذي دونه لا يمكن أن توجد نفس إنسانية يكون صاحبها جديراً بأن يسمى إنساناً، كل فكرة هي كلام النفس، وكل نفس متكلمة هي نفس إنسان إذن. الإنسان شيء له نفس تتكلم ولكن كلام النفس قد يكون شعوراً كهذا الذي أكتب أو تقرأ أنت أيها القارئ، وقد يكون ذلك الكلام غير شعوري كذلك الذي تتكلمه وأنت نائم أو وأنت مشغول بشيء آخر يصرفك عن التعرف إلى كلام نفسك.

ترى هل يستطيع الإنسان أن يبقى بدون أن يفكر تفكيرا شعوريا؟ بمعنى هل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا شعوره فقط؟ إن المسألة هنا أعقد من كوجيتو ديكارت لأننا إذا قلنا: «أفكر إذن أنا موجود» أو كما قال ديكارت نفسه Cogito ergo sum فإن التفكير هنا ينصرف إلى التفكير الشعوري، أو بعبارة أخرى، إن نفس ديكارت حين كان يفكر في هذه الجملة الخالدة التي قالها إنه - أي ديكارت- كان يفكر بكل شعوره، والدليل على ذلك أنه كان يفكر في تعريف الإنسان أو في إثبات وجوده على الأصح. إذن التفكير كان عند ديكارت تفكيرا شعورياً. الحقيقة أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا شعوره فقط مدة طويلة من الوقت، لأنه لا بد أن ينشغل بما يرى أو بما يسمع، وإذا كان أصم أعمى فإنه ولا شك لا بد أن ينشغل بالتفكير فيما حوله، لا بد له أن يتساءل عما يحيط به، وكيف هي الحالة التي يوجد عليها، ولكن إذا فرضنا أن إنسانا ما ولد بمعزل عن الناس، وعن الأشياء المثيرة للتفكير، وأنه ولد بدون بصر ولا سمع، فكيف سيكون عليه هذا الإنسان إذا قدر له أن يعيش، وأن يحيا حتى يصبح رجلا؟.

ولكن هل يمكن واقعيا أن يولد الإنسان، ويبقى على قيد الحياة حتى يصبح رجلا، دون أن يحتاج إلى طعام وشراب وملبس ومسكن؟ الحقيقة خلاف ذلك.

إذن لا بد أن ينشغل الإنسان حتى في هذه الحالة بالأشياء التي تحيط به، والتي هي على الأقل مأكله ومشربه ومسكنه وملبسه.

إذن الإنسان لا بد أن يفكر تفكيرا شعوريا مهما كانت الظروف التي يوجد فيها، فهو إذن كائن موجود حسب تعبير ديكارت. والآن لنتساءل: هل يستطيع الإنسان أن يعيش بشعوره فقط؟ بمعنى أن يكون كلامه النفسي صادراً عن شعور وإدراك؟

دائما الجواب على هذا السؤال لن يؤدي إلى نتيجة أحسن من الأولى، إذاً كيف يستطيع الإنسان أن يعيش وهو يفكر في كل لحظة إنه في حاجة إلى النوم وفي حاجة إلى الراحة، ثم إنه حتى في أوقات عمله كثيرا ما يحدث أن يعمل الإنسان، وفكره شارد ونفسه تتكلم، دون أن يشعر هل هو يفكر أم لا. إن مثل هذا التفكير لا دخل للإرادة فيه، إنه صادر عن اللاشعور، وهذا النوع من الكلام الصادر عن اللاشعور، هو أشبه شيء بأحلام اليقظة، بل إن هذه نوع من ذاك.

إذن الإنسان بحق لا يستطيع أن يبقى دون تفكير، سواء أكان هذا شعوريا أو لا شعوريا، ومن ثم فإن الإنسان لا بد له من وسائل التعبير عن هذا التفكير، وعلى الأصح لا بد له من ذلك إذا كان اجتماعيا على الأقل، فالتعبير من الضروريات التي تستلزمها الحياة. نعم قد يستطيع الإنسان، أو قد توجد حالات يوجد فيها الإنسان غير قادر على التعبير، كأن يفقد مثلا وسائل الكلام والكتابة والإشارة مهما كانت بسيطة، ولكن لا بد من تعبير من نوع آخر، كيفما كانت حال الإنسان، وقد يكون هذا النوع الآخر غير نوع التعبير عن الفكرة، بل التعبير عن الإحساس والشعور، ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يكون دون إحساس وشعور، فإنه لا بد له أن يعبر عن هذا الإحساس والشعور، فهو في حاجة أن يعبر تلقائيا أو لا تلقائيا عن ألمه وفرحه، الإنسان يجوع ويعطش، وتناوله الطعام والشراب هو تعبير عن الرغبة في الأكل والشراب، أي إحساس بالجوع والعطش.

وإذن فالذي دفعني إلى الكتابة، هو شعور بالحاجة إلى الكتابة، هو إحساس بأني أريد أن أقول شيئا، هو التعبير عما كان يختلج في صدري، ولكن أنا أعرف تمام المعرفة أن الذي كتبته حتى الآن لم يكن لدي منه ولو جزء، أصغر أجزائه، لم تكن لدي فكرة عن هذا الذي كتبت فكيف عبرت عنه؟ بل كيف كنت أفكر فيه في الوقت الذي كنت أعبر عنه؟. أنا أفكر وأعبر في آن واحد، ولما كان لدي شعور واحد، فلا يمكن أن يكون هناك فارق بين التفكير والتعبير لماذا؟ لأن التعبير يكون بالكتابة أو بالكلام أو بالإشارة أو بما شابه ذلك. ولما كنت أكتب فقد كنت أتكلم كلاما نفسيا، إذن كنت أعبر، ولكن في الوقت الذي كنت فيه أعبر، كنت أيضا أفكر، ولكن التفكير - كما قلت سابقا- هو كلام النفس، إذن فالتفكير على هذا هو التعبير، ولكن علي أن أستعمل هنا كلمة تعبير بمعنى أوسع، فقد يكون التعبير موجها إلى الشخص الذي أتكلم معه، أو الذي سيقرأ هذا الذي كتبته، كما أنه - أي التعبير- قد يكون موجها إلى نفسي فقط، أما إذا كان التعبير يراد به إفهام المخاطب كلاما أو كتابة، وهذا المخاطب خارج عن نفسي، فإن التفكير حينئذ سيكون غير التعبير.

*1981

* باحث وأكاديمي مغربي «1935 - 2010»