شاب علاقة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ مع الإنجليز لغط كثير، وأخذ ورد، وكثير من الأقاويل التي جانبت الصواب وذهبت في اتجاهات عدة أغلبها كذب، وتم تداولها وتكرارها بشدة حتى بات البعض يعاملها لكثرة تداولها معاملة الحقيقة. كان الملك المؤسس ماهرا للغاية في قراءة الأوضاع الدولية، دقيقا في النفاذ بين دهاليزها، ونجح في تجييرها لصالحه، فبنى دولة، وكانت له مواقفه كحاكم فذ من بريطانيا ومواقفها منه، والوثائق تؤكد أن بريطانيا لم تكن تريد يوما وجوده، لكن بحنكة السياسي، ورغما عن إرادتها نجح في بناء دولة وتوحيد أمة.

وتناولنا في حلقات مضت كيف نشأت علاقات الملك المؤسس مع الإنجليز الذين اكتفوا بالمراقبة في البداية، قبل أن يبدأ تواصلهم الأول معه، ثم تطور الأمر لاحقا لتوقيع معاهدة دارين معه، والتي قامت على علاقة متوازنة متكافئة.

بعثة هملتون وفيلبي

حينما اتفقت بريطانيا مع الشريف حسين على الثورة العربية خَشِيَت أن يُعِيقه السلطان عبدالعزيز عنها بأي مناوشات حربية، فأرسلت بعثة هملتون وفيلبي إلى الرياض في صفر 1336 للهجرة يوافقه ديسمبر 1917، للتفتيش عمَّا يُمكن أن يشغل ابن سعود، فلم يجدا سوى أن يقوما بتشجيعه على حرب ابن رشيد، وليس هذا تحليلاً، بل هو ما نص عليه فيلبي في كتابه بعثة للجزيرة العربية، والحقيقة أن هذا كان بالنسبة لابن سعود تحصيل حاصل، وابن رشيد هو الخصم التقليدي له ولا يحتاج لمجابهته إلى رأي بريطانيا، لكن عبدالعزيز مع هذا حاول الاستفادة من المُيُول البريطانية باشتراطه للموافقة على هذه الحملة 50 ألف جنيهاً ذهبياً وآلاف البنادق وعدد كبير من المدافع، ووافقت البعثة البريطانية، إلا أن عبدالعزيز لم يصله من ذلك إلا القليل، وقامت السلطات البريطانية في الكويت بمصادرة الباقي بعد أن سلمته بالفعل لوكيل ابن سعود في الكويت، لأن بريطانيا غيرت رأيها ورأت الاعتراف بابن رشيد ودعمه، ويفيد الدكتور جبار عبيد صاحب كتاب التاريخ السياسي لإمارة حائل، أن آل رشيد رغم أنهم في المراسلات الرسمية يصنفون أنفسهم رعايا عثمانيين إلا أنهم مع ذلك كانوا يتلقون بين الفينة والأخرى دعما إنجليزيا على صورة مال أحيانا، وأحيانا على صور تسهيلات تجارية وإعفاءات ضريبية. ولقد رجعت الحكومة الإنجليزية إلى وجهة نظرها السابقة وهي عدم ترك وسط الجزيرة لابن سعود وحده، خاصة وأن ابن سعود طالب بريطانيا بمنع الشريف من الاعتداء على واحتي تربة والخرمة، وقد أفاده فيلبي بأن دولته لن تفعل لأنها تقر بأحقية الشريف بهاتين الواحتين، وفي مؤتمر القاهرة بعد ذلك بأشهر أقرت بريطانيا خارطة الجزيرة العربية كما تُريدها هي وليس للوهابيين فيها كما قالوا سوى قطعة يسيرة في الوسط غير مبالين بالتزاماتهم في دارين التي تقدم ذكرها، والعقير الآتي ذكرها، ولكن ابن سعود حقا رسم خريطته بنفسه.

لقد أثمر مطلب البعثة عن ضده فبدلاً من أن يهاجم ابن سعود حائلاً ناوش ابن رشيد وقبائله مناوشات تقليدية ثم عقد صلحاً معه.

تربة والخرمة

كان ابن سعود يرى أن واحتي تربة والخرمة تابعتين له لا لمملكة الحجاز، وذلك لأمور منها:

ولاء أهليهما والقبائل المحيطة بهما للدولة السعودية منذ عهدها الأول، وقد كانت تربة وقبائلها صاحبة مجد عظيم في المعارك التي دارت مع محمد علي باشا نفسه قبل أن يذهب ويبعث ابنه إبراهيم، كما كانت الخرمة أيضا وكُبراؤها آل لوي منذ الدولة السعودية الأولى مع الدعوة السلفية وقادة دولتها آل سعود، وكذلك كان أهل البلدتين وقبائلهما مع عبدالعزيز.

وكانت معاهدة العقير تقضي بأن يضمن البريطانيون حماية دولة ابن سعود من أي اعتداء خارجي، إلا أنهم في عام 1918 قرروا دعم الشريف حسين في الاستيلاء عليها، وبالفعل كتب الشريف يستأذن بريطانيا في ذلك، فكان الإذن، كما أرسلوا لعبدالعزيز أكثر من تحذير من مقاومة الشريف إذا فعل ذلك، ورد عليهم ابن سعود بأن واجبهم أن يمنعوه من التقدم، واستعد بقبول التحكيم بينهما، وأخبر فيلبي مشافهة بأن حكومته إن لم تمنع الشريف من الاعتداء على البلدتين فلن يكون مسؤولاً عما ينتج من عواقب ذلك.

وبعد انتهاء لورنس الضابط الإنجليزي من حصار مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة الأمير فيصل بن الحسين، واستسلام الحامية التركية، عاد أخوه الأمير عبدالله بالقوات النظامية التي كانت مع أخيه من جيش الحجاز تحمل ما غنمته من المدافع التركية، فلم ير الأشراف أن تُوَجه إلى جهة أفضل من هاتين الواحتين، واعتقدوا أن هذه الأسلحة النارية الضخمة مع التفويض الإنجليزي ضد ابن سعود قادرة على سحق أي رد يمكن أن يقوم به عبدالعزيز وقواته من إخوان من أطاع الله، وتُفيد المذكرات المتبادلة بين المسؤولين الإنجليز أنهم كانوا يشعرون الشعور نفسه، ولم يخطر في بالهم أن قواتا نظامية تحمل الأسلحة والمدافع الأوتوماتيكية والرشاشات سوف تقهرها قوة بدائية أكبر أسلحتها البندقية التقليدية.

لكن عبدالعزيز تعامل مع التهديدات البريطانية بهدوء فأرسل ألفاً ونيفاً من قواته إلى الخرمة في انتظار الشريف، ونهاهم عن اتخاذ أي إجراء إلا بعد إذنه، وبخصوص قطع المعونات البريطانية عنه فلم تكن تعني له شيئاً لأمرين، الأول: أنها بدأت مع فيلبي قبل عام ونصف العام وانقطعت أيضا قبل هذا الإنذار بعد اعتراف بريطانيا بابن رشيد وقرارها دعمه ضد ابن سعود، وهو القرار الذي اعتمد رسميا في اجتماع القاهرة وتم إبلاغه لعبدالعزيز على يد بيرسي كوكس.

الثاني: أن الدعم البريطاني المزعوم لا يساوي رعايا ابن سعود ورعايا آبائه في تربة والخرمة وباديتهما.

واحتل الشريف عبدالله تربة، وأرسل قادة ابن سلطان بن بجاد يخبر عبدالعزيز بما حدث فأذن لهم عبدالعزيز بالرد عليه إن هاجمهم، وبالفعل أرسل الأمير عبدالله بن الحسين رسالة لسلطان بن بجاد وخالد بن لوي يقول فيها إن تربة والخرمة ليستا قصده، بل قصده أن يصلي عيد الأضحى في الأحساء، أي أن هذه المدافع جاءت لتدك كل معاقل ابن سعود حتى تستولي على الأحساء، هنا رأى قادة عبدالعزيز أن واجبهم الوقوف في وجهه، وبالفعل حدثت معركة تربة، وتم فيها إبادة الجيش النظامي لعبدالله بن الحسين بأكمله وفرار قائده في 20/8/1337 للهجرة يوافقه 28/5/1919.

وبعدها بأيام وصل سلطان نجد إلى تربة وآلمه ما حدث، وأمر قواته بالعودة إلى نجد، هنالك وصلته رسالة من المعتمد البريطاني في جدة تطلب منه التخلي عن تربة والخرمة والعودة بجنوده من حيث أتوا وإلا ستتولى بريطانيا ردعه، وكان ابن سعود في طريق عودته فعلاً لكنه لم يتخل عن الواحتين كما طلبت منه الرسالة بل ثبت فيهما القضاة والأمراء ومعلمي الدين ثم اتجه إلى الخصم الآخر ابن رشيد الذي كانت بريطانيا قد أخبرت ابن سعود بحمايتها له واعترافها به.

خاتمة

في سياق الحديث عن علاقة الملك عبدالعزيز بالإنجليز حدثت بعد هذه الواقعة أحداث كثيرة، منها نزاعات القبائل في الشمال، ومؤتمر العقير ومؤتمر الكويت، وضم الملك عبدالعزيز للحجاز وثورة الإخوان ومفاوضات النفط وثورة ابن رفادة وتمرد الإدريسي، وكلها تؤكد الحقيقة التي أكدتها الأحداث التي تم تلخيصها في هذا التناول، وهي أن بريطانيا ليس لها أي فضل في تكوين المملكة العربية السعودية، بل كانت عامل إعاقة وتأخير، ولم تكن بحال ترضى بوجود هذه الدولة المباركة، لكنها تركتها في بادئ الأمر لحسابات سياسية خاطئة كانت تعتقد من خلالها أن جميع من حول ابن سعود أقوى منه وأنه سيتعبهم ويستنفد قواهم فترة من الزمن وسيكون ذلك لصالحها، ثم سيسقطونه وهو أيضا لصالحها، لكن تقدير الله فوق تقدير محللي سياسات بريطانيا، وعطاء الله هو العطاء ولا يزيده عطاء بريطانيا ولا يكدره منعها، وقد ظلت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وهي تكيد له وتتمنى زواله.

وأما قول خصوم المملكة اليوم وأمس وغداً إن السعودية صنيعة بريطانيا فهو كلام لا وثائق تصدقه، ولم يقل به البريطانيون أنفسهم، ومن يقرأ مذكرات كل الإنجليز الذين عرفوه يدرك ذلك جيداً، بيرسي كوكس، وديكسون، وفيلبي، وكذلك المراسلات الرسمية في الوثائق البريطانية، من يقرأ كل ذلك لن يجد إلا ما يؤكد له كذب كل ادعاء يزعم غير ذلك.

كان الملك عبدالعزيز سياسياً عظيما كما كان عسكرياً عظيما، ورجل هذا شأنه لن تجد في لغته أو تصرفاته عنتريات وضجيجا لاكتساب الجماهير وإرضاء الغرور النفسي، وإنما سيجد محنكاً يعرف أقدار الخصوم ويحسن التحكم في صندوق صدره في مواجهتهم، كما يتقن مهارة كسبهم ومداراتهم وتحييدهم متى ما أراد وجرهم للمواجهة متى أراد أيضا، ثم الوصول إلى ما يريد، فيما يعتقد السُّذَّج أن القائد هو مفضوح السريرة الذي يستطيع أعداؤه معرفة حجمه فيتركونه يستعرض عضلاته أمام الجماهير فترة من الزمن فإذا حان وقت قطافه قطفوه وأتلفوه.

إن عبدالعزيز هو صاحب أول نصر إسلامي في هذا العصر الحديث الذي لم يكن قبله سواه بعد سقوط دولة أجداده سنة 1233 للهجرة، وهو صاحب أول مشروع وحدة عربية ناجح حتى اليوم منذ مئات السنين، وكل أصحاب الدعاوى ضد الملك عبدالعزيز، لا يستطيع أحدهم أن يقدم لعالمنا الإسلامي قائداً فذاً يحمل سجايا وإنجازات الملك عبدالعزيز منذ وفاة الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد رحمه الله.

ولا يستطيع أحدهم أن يقدم للأمة قائداً منذ ثلاثة قرون له على جيله من أبناء وطنه وعلى الأجيال من بعده من الفضل ما للملك عبدالعزيز. ويكفيه فخراً ويكفينا فخراً به أنه جاء في زمن عربي وإسلامي حالك صنعه الضعف العثماني وعوامل أُخر، واستطاع أن يستخرج لنا من هذه الجزيرة المتشرذمة وطنا واحدا نحيا فيه بين أمم الأرض بقوة صلبة دينا ودنيا لا يستخف بها إلا من في بصيرته خلل يعز عن العلاج.

للعودة للحلقة (1)

للعودة للحلقة (2)

للعودة للحلقة (3)