كان مستهل اتصالي بحرفة التعليم، يوم عُينت مدرسا للغة العربية، بالقسم الثانوي بمدارس الثغر النموذجية، بحي الخالدية بجدة. ولا زلت أذكر أول صباح لي فيها؛ كان صباحا مفعما بالزهو والحبور.

لم يكن التدريس أمنية من أمانيَّ، لكن الثغر النموذجية توشك، آنئذ، أن تكون مكافأة طيبة، لمدرس تخرج في الجامعة بتقدير ممتاز! وحسبه، عزاء له، أن عين في مدينة جدة، يوم عين آخرون، بعيدا عن أسرهم وأهليهم، وها أنا ذا، بعد أن تقلبت بي الحياة، أعتد التعليم أجمل أيامي، والثغر النموذجية خير أيامي فيه!

عرفت مدارس الثغر النموذجية في حقبة صعبة، لم يبق من تاريخها القديم إلا ذكريات شاحبة يتحسف عليها، وإلا قيامها بأمرها، مستقلة عن مدارس التعليم العام، وإلا ذلك الماضي الذي أراده لها الملك فيصل بن عبد العزيز – يرحمه الله – يوم أنشأها في الطائف، أولا، ثم لما وجه بانتقالها إلى مدينة جدة، فكانت الثغر لعروس البحر نغمة عذبة حلوة في زمن جميل. وكأنما أرادها الفيصل – يوم أنشأها – أن تضاهي مدارس أقدم عهدا منها، فأشبهت الكلية الثانوية بالجامعة الأمريكية ببيروت، وماثلت «كلية فكتوريا»، تلك المدرسة المصرية الراقية، ولكنها في الطائف، أولا، وجدة، آخرا.

لم تكن مدرسة الثغر النموذجية، مدة اتصالي بها، في الأعوام 1410-1412 كغيرها من المدارس؛ فطلابها يرتفعون، في عامتهم، إلى الطبقة المخملية، وكان النبوغ في الدراسة أظهر سماتها، أما معلموها، فهم السابقون في التخصص، لا سيما أن القسم الثانوي يختص بالعلوم الطبيعية، دون العلوم الأدبية، إلا ما كان معدودا في مواد الهوية كاللغة العربية والدين والتاريخ والجغرافيا. أما ما سوى ذلك فلم تكن الثغر لتختلف عن غيرها في نشاط فني أو اجتماعي، مما عرفته في تاريخها البعيد، إلا اليسير منه، وكان ذلك اليسير نادرا، لا يأباه الممسكون بأمر التعليم في مدارس تلك الحقبة، فإذا أبصرت قاعة واسعة الأبهاء، أو مسرحا مكتمل العناصر، فحسبك أن تعرف فيهما مبنى دون معنى، وما كان ليؤذن للطلاب ولا المدرسين أن يصطنعوا في تلك المرافق شيئا من الفن أو الثقافة، إلا في ضرب من الحيلة، ولا أذكر أن نشاطا أدبيا أو فنيا شهدته المدرسة في الزمن الذي أمضيته فيها، إلا مسرحية ساذجة يسيرة كان لي أمر الإشراف عليها، وما كدنا نعرضها، مصحوبة بآلة موسيقية، حتى صد عنها قوم، وثار بها آخرون، ولم يكن لمدرسي اللغة العربية، وأنا واحد منهم، أن يلوا فيها شأنا ثقافيا، مهما كان يسيرا، ولا أذكر أنه صار إليهم تنفيذ صحيفة حائطية، أو ما يشبهها، كما كان العهد بهم، في زمن التلمذة والطلب.

لم أقل ذلك؟ داخلني هذا الشعور بالأسى، وأنا أقرأ كتاب الصديق العزيز مشعل عيضة الحارثي «الملك فيصل والمدرسة النموذجية». وأقل ما يقال فيه: إنه جمع فأوعى، وكان تاريخا مفصلا لهذه المدرسة، منذ أنشئت في الطائف، عام 1366، ثم لما تحولت إلى جدة، عام 1380. كان مشعل الحارثي مؤرخا أمينا، يصل التاريخ بالوثيقة النادرة، وانطوى كتابه على أربعة عناصر: الخبر التاريخي، والوثيقة النادرة، والإحصاء الدقيق، والصورة المعبرة. وتوشك أن تكون كل صفحة من صفحات الكتاب تاريخا ضاجا بالحياة؛ فالمدرسة أنشئت على قدر، وخطط لها بعناية، ومن البين أنه أريد للطلاب الذين التحقوا بها أن ينعموا في أنحائها بأمتن حياة وأعذبها، فإذا تخرجوا فيها، بعد اثني عشر عاما، كان ما تلقوه من دروس نافعا مفيدا، وما أصابوه من الثقافة والفنون والآداب قمينا أن يصنع منهم أشخاصا مقبلين على الحياة، ما دام الممسكون بأمرها قد أحسنوا التخطيط والتنفيذ والإدارة، ولاءموا بين ما يحتاجه العقل، وما يتعشقه الروح، وأعطي التلميذ في القسم الابتدائي والمتوسط، والطالب في القسم الثانوي ما يقيم شخصيته، فكانت المدرسة رياضيات، وفيزياء، وكيمياء، كما كانت نشاطا بدنيا، وعرضا مسرحيا، ومرسما، وموسيقا، وغناء.

كل ذلك انطوى عليه كتاب الحارثي، ذلك الماتع الجميل. أداه إلينا سائغا عذبا جميلا، فأمتعنا وأسخطنا! أما المتعة فلكل ما مر بنا في الكتاب، وأما السخط – وإن شئت الأسى – فلأنني وجيلي الذي أنتمي إليه لم نختلف إلى مدرسة الثغر النموذجية، ولم نذق شيئا من أفاويقها، ولأنني، لما جئتها مدرسا، لم أشهد شيئا من ذلك التاريخ، وكان يكفيني من الثغر – تلميذا أو مدرسا – أن تصل ما بيني وبين الفنون، فإن لم أحسن الضرب على هذه الآلة أو تلك، فحسبي أن دربت على تذوق الفن وإساغته! فما ظنك بجيل أتاحت له هذه المدرسة علما وفنا وثقافة وأدبا؟!

والحق أنه أتيح لمدرسة الثغر كل أسباب النجاح؛ أما المؤسس، فحسبك أن تقول: فيصل بن عبد العزيز، ولا تزيد، وأما الإدارة فليس قليلا أن يلي أمرها، في عهد من عهودها محمد عبد الصمد فدا، وأن يقال في ترجمته: «الفقيه، والمربي، والأديب، والشاعر»! وأن تقرأ مما قاله فيه أصدقاؤه وتلاميذه ومريدوه، فتعرف أي تاريخ صنع، وأي جيل أنشأ!

وليست الدروس المتينة، ولا المسرح، ولا المرسم، ولا الموسيقا، هي كل شيء في مدرسة الثغر النموذجية، مما أثبته الحارثي في كتابه، وعساها كانت ناديا أدبيا، قبل أن تعرف البلاد الأندية الأدبية.

كان ذلك في المدة التي عهد إلى محمد فدا أمر إدارتها، وأنت تعرف أن الرجل كان أديبا شاعرا مثقفا، وأنه اشتهر برعاية الثقافة والفنون والآداب، منذ كان مديرا للمدرسة الرحمانية بمكة المكرمة، وها هو ذا يستهل عهدا جديدا للثقافة لما تحولت المدرسة من الطائف إلى جدة، فالمقر واسع كبير، يشتمل على ملاعب، وحدائق، ومطاعم للطلاب، والمرافق تلائم الغاية التي أنشئت لها المدرسة، وأهمها مسرح واسع مكيف الهواء! إذن، فليكن مسرح، ولتكن ندوات ثقافية، وأماسي أدبية!

والحق أنني كنت دهِشاً لما طالعت مقالا للعلامة عبد القدوس الأنصاري عن «ندوة أدبية كبرى»، أقامتها مدرسة الثغر النموذجية، عام 1380، فلما قرأت كتاب الحارثي زدت على الدهش إعجابا وأسى! أما الإعجاب فبهذه المدرسة النموذجية، حقا، إذ لم تكن ندوة الأنصاري وحيدة يتيمة، ويكفي أن جدة كانت على موعد في مساء الخميس 16 من ذي القعدة سنة 1384 مع محاضرة للمستشرق الفرنسي الكبير شارل بلا، موضوعها الاستشراق وتاريخه، وأن المثقفين والمدرسين والطلاب لم يكادوا يفيقون من أثرها، حتى ارتقى المستشرق المسلم عبد الكريم جرمانوس منبر الثغر، فألقى، في مساء الإثنين 27 من ذي القعدة سنة 1384، محاضرة عنوانها «الأحاسيس والانطباعات التي يتلقى بها الأوروبي المثقف الحقائق الإسلامية».

كان هذا هو الدهش والإعجاب، أما الأسى فلأن أحلامي في مدرسة الثغر لم تكن ليرتفع بها الخيال، إلى ذلك القدر الذي أثبته كتاب مشعل! على أن ما قيدته، هنا، ليس كل ما فيه من وقائع وتواريخ، وحسبي أنني كلما مضيت في بيان ما انطوى عليه يزداد إعجابي، ويشتد أساي!