لأوروبا تاريخ طويل حافل بالصراعات المذهبية، تاريخ مصبوغ بالدم، وملطخ بالمجازر البشرية التي أصبحت عارا على جبين الإنسانية، لقد شملت الصراعات المذهبية، التي حدثت خلال العصور الوسطى، وحتى عصر النهضة، وفي جزء من عصر التنوير، كافة المذاهب المسيحية، إلا أن أبرزها وأوسعها وأبشعها تلك التي حدثت بين المذهبين الكبيرين: الكاثوليكية والبروتستانتية.

ما هي قصة «عائلة كالاس» التي عنونّا بها المقال؟

إنها عائلة بروتستانتية، تقيم في فرنسا، حيث الأكثرية تدين بالمذهب الكاثوليكي، وهي تنتسب إلى أب من مدينة تولوز، يدعى جان كالاس، للعائلة ابن يسمى أنطوان، انتحر ذات مساء في بيت العائلة، بأن شنق نفسه في إحدى سواري البيت. لم يكد والداه يفيقان من هول مصيبة انتحار ابنهما، حتى سرت شائعة في الحي الذي يسكنونه بأن الأب قتل ابنه بسبب تحوله إلى المذهب الكاثوليكي، وسرعان ما انتشرت الشائعة في العامة المتعصبين للكاثوليكية انتشار النار في الهشيم، على طريقة الاندفاع الجماهيري الآتي من سيكولوجية الجماهير، التي تحدث عنها الفيلسوف جوستاف لوبون في كتاب يحمل الاسم ذاته.

هاجت الجماهير وماجت، مطالبة بمحاكمة الأب، أو قتله فورا، وما زاد من مأساة العائلة أن القضاة الذين نُصبوا للنظر في القضية تأثروا من غليان المشاعر الطائفية على الجماهير الكاثوليكية، فأصدروا حكما متسرعا بتعذيبه تعذيبا بشعا حتى يعترف بجريمة لم يرتكبها، وعندما أشعلوا النار، تمهيداً لإلقائه فيها، كما كانت عليه الحال أيام محاكم التفتيش القروسطية، أخذ الرجل يتوسل إليهم، وقد كان حينها كبيرا في السن، أن يقتلوه قبل أن يلقوا بجسده فيها، فلم يستجيبوا له وألقوه في النار وهو حي. بعد مدة قصيرة من الحكم الجائر اكتشفوا أن الرجل بريء من تهمة قتل ابنه، فخافوا أن يفتضح أمرهم، عندها تدخلت السلطات العليا، التي كانت تدين بالكاثوليكية، لإخفاء الموضوع حتى لا ينتشر، ولكنه انتشر على الرغم من كل شيء.

وصلت أصداء تلك القصة المحزنة إلى فيلسوف التنوير المعروف فرانسوا ماري آروويه، المعروف بلقب فولتير، فحزن حزنا شديدا، وقرر أن ينزل بثقله إلى الساحة لمحاربة الطائفية، والدعوة إلى الوئام المدني بين المذاهب المتصارعة، بصفته الحل الأوفق والأسلم، من هنا، أطلق شعاره المعروف (اسحقوا العار)، وهو شعار أراد به مواجهة المتعصبين من المسيحيين الكاثوليك، الذين كانوا يقتلون البروتستانتيين، ويسحقونهم، ويخربون بيوتهم، ويبقرون بطون نسائهم، لا لأنهم يدينون بديانة أخرى، بل لأنهم كانوا ينطلقون، في فهمهم للدين المسيحي، من مذهب آخر.

لاحقا، كتب فولتير رسالته الشهيرة (مقالة في التسامح)، والتي وجه فيها رسالة إلى المتعصبين الكاثوليك، فحواها: «إذا كنتم تعدون عدم الاعتقاد بالدين المهيمن أو دين الأغلبية، يمثل جريمة، فإنكم تدينون بذلك آباءكم من المسيحيين الأوائل، عندما كانوا لا يزالون أقلية في الإمبراطورية الرومانية، بل وتبررون اضطهادهم وتعذيبهم آنذاك، ولكني أعرف أنكم ستردون عليَّ قائلين: الفرق كبير بين تلك الحالة وحالتنا الآن، إذ إن كل الأديان والمذاهب الأخرى، من صنع البشر، ما عدا المذهب الكاثوليكي، البابوي الروماني فهو وحي من عند الله، ولكن على فرض أن كلامكم صحيح، فهل ينبغي أن يهيمن ديننا عن طريق الحقد والقلق والتعذيب والإرهاب؟، فكلما كان الدين المسيحي إلهياً أصبح ممنوعاً على الإنسان أن يتحكم به، فإذا كان الله هو الذي أوحى به، فإن الله تعالى قادر على دعمه وحمايته بدونكم، ولعلكم تعلمون أن الإكراه لا يولِّد إلا منافقين في الدين، أو متمردين عصاة، ويا له من خيار مشؤوم!».

ولقد تضمنت رسالة فولتير عن التسامح، ذلك الشعار الذي أصبح لاحقا أحد أيقونات التسامح الأوروبي «إنني مستعد أن أموت من أجل أن أدعك تتكلم بحرية، مع مخالفتي الكاملة لما تقول»، وهذا الشعار كان إرساءً مثالياً لحل إشكالية حرية التعبير، وهي أن (حق) التعبير للفرد والجماعة مرتبط عضوياً بـ(واجب التعبير للآخر)، فما هو حق لطرف، يعد واجباً على الطرف الآخر، وبالتالي، فإن (حق) التعبير لا حدود له إلا عندما يعتدي على (واجب) التعبير للآخر.

الشيعة والسنة اليوم يواجهون الظروف نفسها التي كان يواجهها الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا قديما، فلولا يد السلطة المتحكمة في مجريات العلاقة بين الطائفتين، لتحولت الشوارع أنهارا من دماء المتقاتلين منهما.. وما الحوادث التي تشهدها الطائفتان، في بعض المجتمعات من حولنا، عندما ترتخي القبضة الأمنية فيها، إلا دليل على أن زناد الحرب الدينية بينهما جاهز ومعبأ بالبارود، وخير لعقلاء الطائفتين أن يعتبروا بما حصل في أوروبا من حروب مذهبية أكلت الأخضر واليابس، لكنها لم تستطع أن تقضي على أي منهما.