تحدث الكاتب السعودي توفيق السيف في مقال له بصحيفة الشرق الأوسط عن قيمة الحرية وكيفية فهمها بين الأفراد، والتي تنقص كثيرا عند البعض ويدخلها اللبس فترتبط بسبب سوء الفهم هذا بمعاني الانفلات والانحلال خاصة في الذهنية العربية. والحقيقة أن المقال يعد مدخلا بسيطا لحديث طويل عن الحريات، الحريات التي تأخذ صورا عدة في مختلف مناحي الحياة: الاجتماعي أو السياسي أو الديني، أو حتى تتشكل في صور مادية أو معنوية نشعر بها ونلمسها.

ولعل أكثر صور الحرية التي طالها الجدل هي حرية المرأة: معنى وفهما وقيمة وأبعادا اجتماعية وتاريخية، وعلى الأخص المرأة السعودية. وهي الحرية التي أخذني إليها مقال السيف لتناولها مرة أخرى، حيث إنها قضية لا ينبغي لامراة أن تتجاهلها فضلا عن التنازل عنها. وهي كذلك قضية لم ينته إشكالها في عمق الواقع الذي ينظر لها حينما تذكر بمنظار الانفلات واللا مسؤولية، لأن معايير الحرية التي ضُربت للمرأة كان بينها وبين تلك التي وضعت للرجل بونٌ شاسع زرع بالتحذير من الاقتراب منه، وضُبط كل معيار فيه يخص المرأة بفتوى دينية تجعل من هذا الضابط أقوى في تشريعه وفرضه، وأعمق في العقوبة لمن يتجاوزه لوجود المبرر.

وضع المرأة مع الحريات وتبدل مفاهيمها لم يكن شائكا في المجتمعات العربية فقط، ولا في مجتمعنا الذي توالى عليه في سنوات الصحوة تكريس للصورة المشينة والمعيبة لحرية المرأة، بل إن المرأة من العصور القديمة تقع بين إشكال الرفع لمستوى الآلهة فتُعبد، أو الانتقاص لدرجة الشيطنة فتُجرّم وتُعامل من منظور الخطيئة التي حُمّلت بها وزرا. ولكن ما يجمع هذا التباين ويسيطر على غالب طرق الحضارات والمجتمعات القديمة والحديثة مهما اختلفت زمنيا ودينيا وعرقيا، هو أن المرأة في منظورهم أداة للجنس ومصنع الأبناء، ومن دون التحكم بطبيعتها البيولوجية لن يمكن السيطرة عليها، بمعنى أن المرأة كونها مادة عقد الزواج الذي هو نوع من الحلف الاجتماعي والاقتصادي بين الأسر والقبائل – والدول فيما مضى- تعد أداة تهديد لهذه المجتمعات لو اختل أداؤها، أو تعرض الضابط الذي يوضع من قبل الرجال لتحديد مسارها (ضابط الجنس) لأي تشويه متعمد أو غير متعمد. لهذا بادر المشرعون لهذه التجمعات الإنسانية المختلفة - وهم في الغالب من الرجال - بوضع قوانين ونظم وأعراف اجتماعية لضبط المرأة وضمان بقائها تحت هيمنة الرجل -وبالتالي القبيلة- واستمرار عمليات النفع الاقتصادي والاجتماعي، من خلال قوانين «العِرض والشرف» التي توارثتها المجتمعات من خلال المرأة. ويمكن القول ببساطة إن المرأة بمزاياها البيولوجية (الجنس-الإنجاب) صارت مصدر تهديد وخوف للرجل الذي قد تهتز مكانته لو اختل الضابط الذي وضعته التشريعات لضمان عدم المساس بهذه المزايا الأنثوية.

في مجتمعاتنا العربية أخذ هذا الضابط الذي يضمن السيطرة على الأنثى طابعا دينيا مشددا نُحت من أعراف وعادات يحكمها الخوف- وأحيانا الغضب- من هذا التهديد الأنثوي لمكانة الرجل التي لا تقبل العيب منها أو بسببها. مع أن ديننا الإسلامي ساوى بين الرجل والمرأة في التكليف والعبادات والمصير في الآخرة وجعلهم أحرارا لا فرق بينهم، إلا أن قوة تلك العادات والأعراف الاجتماعية استطاعت أن تجعل المرأة لا تخرج عن التنميط السابق الذي مع تكراره أصبحت المرأة نفسها لا تُنكره ولا تستطيع الخروج عنه إن أنكرت. محاولات الخروج على سيطرة العادة والعرف هي شكل من أشكال الحرية التي إن مارستها المرأة عدت انفلاتا وعملا مشينا يحشد ضده الإنكار والاستعداء وقد يصل لحد الإيذاء.

وبطرح أمثلة بسيطة من التحولات مر بها مجتمعنا مع المرأة، ورصد لردات الفعل تجاه هذه التحولات -مثل عمل المرأة، حجاب المرأة، قيادة المرأة، سفر المرأة، سكن المرأة، تزويج المرأة نفسها وغيرها- نرى فعلا أن الضابط لهذا الإنكار لحرية المرأة مهما كان الشكل الذي تتخذه، هو الإرث الذي يوجد في الذاكرة الجمعية من ربط بين حرية المرأة وبين انحلالها جنسيا، وتعريض مصدر قوة الرجل القديمة لأي ضعف. لهذا حتى يتم التعامل مع قضايا المرأة بشكل عادل والتي تمس حرياتها الشخصية خاصة ما يتعارض مع العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي صورت على أنها دين، يجب أن يعالج الإشكال الفقهي والاجتماعي فيها ثم يصبح الضابط فيها قانونا مرجعيا.

قد يرى البعض أنه من العبث في هذا الوقت التحدث عن حرية المرأة وهو وقت قد بدأت تمارسها فيه فعليا، وقت الرؤية الطموحة وتمكين المرأة، ولكن الواقع أن الفجوة بين الإرث الثقيل الذي تحمله وتواجهه النساء، وبين الواقع الذي بدأ في التشكل سحب معه إلى القاع الكثير من ضحايا تلك الأعراف والعادات، يكفي أن تجد منزلا يكتظ بخمسة شقيقات لم يستطعن العمل لأنه ضد طبيعة التفكير الذي يقرر الولي عليهن، ولم يستطعن الزواج لأنه أيضا ضد اختيار ذلك الرجل الذي يتحكم في مصائرهن مع شعوره بالأحقية في هذا التحكم والقوة.

من الفرائد ما كتبته فيرجينيا وولف في كتابها «غرفة تخص المرء وحده»، أن النساء قمن وعبر قرون من الزمن بوظيفة المرآة العاكسة، لكنها مرآة تمتلك قوى سحرية لذيذة، تعكس صورة الرجل مضاعفة عن حجمها الطبيعي، وقد يُفسر ذلك جزئيا ضرورة النساء للرجال، وكذلك غضب الرجال من النساء لو قالت لهم عن صورتهم الحقيقية. فلو أن المرأة بدأت بقول الحقيقة لترتب على ذلك أن تنكمش صورة الرجل في المرآة، لهذا على الرجل أن يُبقي المرأة خاضعة وخائفة وأقل منه في كل شيء حتى تعكس له الصورة التي يريد، تعكسها له وللآخرين. فتأمل عزيزي الرجل كيف تبدو صورتك في انعكاس مرآتك؟!