كان «كتاب سيبويه» الشهير، الذي يعتبر واحدا من أهم المؤلفات في تاريخ العلوم اللغوية، مرجعا رئيسا عند علماء أصول الفقه، نظرا للعلاقة القوية بين علمي النحو وأصول الفقه. فقد كان من النادر أن نجد كتابا في أصول الفقه خاليا من البحوث اللغوية والنحوية، فكثير من مسائل النحو كانت ممزوجة بعلم أصول الفقه حتى أعتبر علم النحو ركنا من أركان علم أصول الفقه. وقد كان الشاطبي يعتبر فهم لغة العرب هو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة، يقول ابن السبكي: «إن الأصوليين دققوا في فهم أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون».

وهنا يتبادر للذهن علاقة سيبويه بعلم أصول الفقه، هل كان سيبويه فقيها أم لغويا؟ وهل شهرة كتابه في النحو كافية لأن نعتبره لغويا ونقصيه من عالم الفقه الشرعي، مع وجود العلاقة الوثيقة بين أصول الفقه والنحو، حتى أن كثيرا من المصطلحات التي استخدمها سيبويه ذات صبغة فقهية، يقول ابن حزم: «فرض على الفقيه أن يكون عالما بلسان العرب ليفهم عن الله عز وجل والنبي، ويكون عالما بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي نزل به القرآن، وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ».

يعرف سيبويه بلقب «إمام النحاة» وبسبب مؤلفه «الكتاب» ارتبط اسمه بالنحو حتى اختزل سيبويه في تخصص النحو، مع أن كتاب سيبويه لم يكن كتابا في النحو بالمعنى الاصطلاحي فحسب، فهو أكثر من كونه كتابا في النحو، هو كتاب في العربية بالمعنى العام، ولعل من أهم المعارف التي تناولها الكتاب، دراسته المتعمقة للبلاغة القرآنية وأسرار التعبير القرآني، فقد كان لسيبويه أهداف مبطنة لتأليف كتابه الشهير، أحدها هو الكشف عن كنوز النص القرآني وأسراره المصونة ولطائفه المكونة في سبيل التعرف على جوانب الإعجاز فيه، بالإضافة إلى أنه كان يحرص على كشف مقاصد العرب في ألفاظها ومعانيها كون القرآن الكريم نزل بلسانهم، لتقديم محتوى يساهم في تسهيل استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التي يعتبر النص القرآني أهمها، وتأكيدا على ذلك قول الجرمي الشهير بأنه يفتي الناس منذ ثلاثين سنة من كتاب سيبويه.

إن قول الجرمي يعكس الجانب الفقهي في كتاب سيبويه، الذي قد يجعل من اهتمامات سيبويه اللغوية ليست في حقيقتها إلا تفرعا من علم أصول الفقه، وقد تكشف عن صورة الفقيه الحقيقية لسيبويه وتضعه في خانة الفقهاء، كون العلاقة بين النحو والفقه متداخلة بشكل يصعب تمييز الحدود الفاصلة بينهما، يقول ابن جني في كتابه الخصائص: «لسنا ندعي أن علل أهل العربية في سمت العلل الكلامية البتة، بل ندعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية» وكلام ابن جني يؤكد على العلاقة الجدلية بين أصول الفقه والنحو، التي تجعلنا نعيد النظر في موقع سيبويه العلمي في زمن لم يعرف التخصص بمعناه المعروف في الزمن الحديث.

تختلف اللغة العربية عن بقية اللغات بأنها ارتبطت بكتاب مقدس وأصبح لها أهمية في الشريعة، لذلك كانت ولا زالت علوم اللغة العربية هي القاعدة المتينة التي تقوم عليها الأحكام الفقهية، ومن هنا اشترط الأصوليون في المجتهد أن يكون ضليعا في قواعدها وفروعها. يقول ابن جني: «أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في اللغة الكريمة الشريفة». فكلام ابن جني وغيره من اللغويين أو الفقهاء يؤكد أن الاهتمام بعلوم العربية في حقيقته ليس إلا نشاطا فقهيا لا يخرج عن دائرة الدراسات المتعمقة لفهم النص القرآني الذي تدور حول مركزه غالب العلوم في الحضارة الإسلامية.