بعد يومٍ دامٍ أمست عليه بيروت الأسبوع المنصرم، شهد أكبر ثالث انفجار في العالم بعد انفجاري "هيروشيما ونجازاكي" اليابانيتين إبان الحرب العالمية الثانية، كانت لبنان على موعدٍ مع زعيمٍ غير عادي قادم من الغرب. تاريخ أسلافة ضارب في العمق اللبناني، وفصول التاريخ حُبلى بالقصص والحواديت. وصل الرئيس الفرنسي إلى مطار رفيق الحريري كأول زعيم يزور لبنان بعد الحادث الأليم. لذلك اعتبارات سياسية، أبرزها الشعور الفرنسي بالانتماء اللبناني. استقبله الرئيس اللبناني ميشال عون، وذهب من طريق، والآخر من طريق.

جال إيمانويل ماكرون في بيروت وكأنه مختار لجبل لبنان أو قسيس ماروني ذو اعتبار وكلمة مسموعة. شعرت لوهلة أنه بات "إيمانويل الراعي".

وجد الشارع اللبناني الرئيس الفرنسي قريباً منه أكثر من رئيسه الفعلي، لذلك رددوا أمامه "الشعب يريد إسقاط النظام.. ثورة ثورة ساعدونا". تحدثوا معه بأسلوب الشكوى من النظام الحاكم. ومنحهم بالمقابل وعوداً مطلقة بأن فرنسا لن تتخلى عن لبنان.

تجرأ ماكرون على السير على الأقدام في منطقة الجميزة شرق بيروت، محاولاً امتصاص الغضب الشعبي اللبناني، وهو الأمر الذي لم يُقدم عليه أي من الزعامات اللبنانية، عدا سعد الحريري رئيس الوزراء الأسبق وزعيم تيار المستقبل، الذي تم رميه بالحجارة في ساحة الشهداء تعبيراً عن غضب الجماهير. أما البقية فبقيت في الجحور.

استطاع الرئيس الفرنسي في تلك الزيارة سحب الزعامة من زعماء يعانون مواجهةً مع شعبهم. الفساد يُخيم على كثير منهم إن لم يكن جُلهم. واللغة النفعية قبل لغة الوطن لدى عشرات من ساسة لبنان، وزراء كانوا أو نواباً في البرلمان أو رؤساء أحزاب، يسبقهم الرئيس القابع في قصر بعبدا. قلت قبل أسابيع في هذه الزاوية أن سياسيي لبنان كـ"القردة، إن تصالحوا اقتسموا المحصول، وإن تخاصموا أفسدوه".. لذا يبدو أن الانفجار نتيجة خصام من وراء الكواليس.

منتهى الخزي بالنسبة للطغمة الحاكمة في لبنان، أن يجول رئيس لدولة أخرى، شوارع عاصمة بلادهم، بالطريقة التي أقدم عليها الرئيس الفرنسي. ومن باب التبرير، قد يكون للرئيس أو رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان الذين يشكلون الزعامات الثلاث الأقوى في لبنان، أهدافاً من فسح المجال للرئيس الفرنسي بأن يتصرف وكأنه رئيس للبنان. انتظار المعونات الفرنسية ربما قادهم لغض الطرف والتنازل عن مساحتهم السياسية لزعيمٍ كان أجداده يمثلون انتداباً في بلادهم. وهذا أبرز صور النفعية على حساب الهيبة. الهيبة التي تُفرض ولا تؤخذ ولا تُمنح ولا تُباع ولا تُشترى. مساءً عقد ماكرون مؤتمراً صحافيا. تحدث لزعماء لبنان بلغة حادة. أشبه بحديث مُعلمٍ مع تلاميذ صفٍ مُشاغبين. قال علناً "ستجدون فرنسا على الدوام إلى جانب لبنان، لكن عليكم أن تدركوا أن باريس لن تمنحكم شيكاً على بياض، ما لم تكُن هناك إصلاحات سياسية. المال الفرنسي سنتولى التصرف به في لبنان، ولن يذهب إلى أيدي الفاسدين. يجب أن يكون هناك ميثاق جديد لتغيير نظام الحكم في لبنان".

في حديث الرئيس الفرنسي اعتراف ضمني مُبطن بأن لبنان يُعاني من طغمةٍ حاكمة تُعاني فسادا مستشريا، وفي الوقت ذاته إشارة إلى الرئيس المتحالف مع حزب الله. ستأخذ التأويلات والتكهنات في حادثة بيروت حقها من الوقت والتحليل والتنظير، وربما تراشق التهم وتقاذف المسؤولية، فالمساحة خصبة لذلك، في دولةٍ مفتوحة تعيش أعلى سقف مما يُسمى ديمقراطية، لكنها تُعاني مجتمعا هشا ومتفككا، نظير الأحداث السياسية التي عصفت في البلاد والتاريخ الدامي، منذ الانتداب الفرنسي، حتى الحرب الأهلية، والوصاية السورية، وصولاً إلى اتفاق الطائف، وانتهاءً بعصابةٍ طائفية تتحكم في البلاد والعباد. أدرك أن كل ما تشهده الساحة اللبنانية على مدى سنوات تأكيد على غياب الدولة، التي تعيش بعيداً عن هموم الشارع اللبناني، وتقف عاجزةً أمام المتصرف الأول والأوحد في مفاصل الدولة اللبنانية "حزب الله"، المدعوم من رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي منح الغطاء الشرعي لسلاح حزب الله، تحت ذريعة مقاومة إسرائيل التي تجول مقاتلاتها يومياً في سماء لبنان، وضعف الجيش، الذي يعتبر هو أبرز جنرالات تأسيسه – أي الجيش - في حقبةٍ تاريخيةٍ مضت. حدث ما حدث. على جميع اللبنانيين القفز للمرحلة المقبلة التي ستعقب الانفجار. وحتى وإن تجاوزوا الحادث الذي شهدته تلك العاصمة الجميلة وأرعب العالم، يجب القول، إن وجود حزب الله بسلاحه وعتاده، المصنع محلياً والمستورد من إيران ومن نظام الأسد، هو السبب الرئيس في هشاشة الدولة اللبنانية وتفكك المجتمع، وليس انفجاراً هنا أو هناك. فلبنان وهو بيد حزب الله يمثلُ "حق لمن لا يملك، بيد من لا يستحق". ولسان اللبناني الجائع يُردد لحزب الله "حديد المدافع، والصواريخ لن يُشبعنا". وأنا أرى أن قتل الثعبان لن يكون إلا بتهشيم رأسه.. وإلا سيعود وبشكلٍ أشرس.

وما بين عون وماكرون، لا أعلم من يحكم الدولة. المفهوم أن الانتداب الفرنسي لا يزال يُطل برأسه على لبنان.