لا يختلف أحد في أن أهم ركن من أركان الحج الأربعة هو (الوقوف بعرفة أو عرفات) ـــ عرفات ليست جمعاً لعرفة، هو مفرد على صيغة الجمع ـــ، وهو أصعبها تصورا بدون شك، لا سيما أن الأمل والمخطط المرجو تنفيذه هو بلوغ عدد الحجيج 5 ملايين حاج سنويا، وعليهم أجمعين أن يقفوا وسط سهل منبسط محاط بقوس من الجبال، مساحته 10.4 كيلو مترات مربعة فقط..

ركن الإحرام ركن سهل، وركنا طواف الإفاضة وسعي الحج سهلان أيضا، من حيث إن محلهما المسجد الحرام، وتجربة هذه العام الناجحة أثبتت ضرورة السماح للحشود بدخول منظم وخروج محدد، بحسب الطاقة الاستيعابية الآنية للمطاف، وللمسعى، وللمسجد الحرام بشكل عام، مع تحديد للمسارات، ومنع للزحام، والتقيد بالتسجيل المسبق، وغير ذلك من أمور تجعل القاصد مستمتعا بعبادته..

أعود للركن الأصعب، وهو ركن (عرفة)، وهذا حتما لا يحله، وسط ما ذكرته من مساحة؛ إلا التنوع الفقهي الجميل، الذي ورد في كتب أسلافنا، رحمهم الله، وعدم التشدد على رأي دون آخر، والاعتماد من قبل ومن بعد على ما ثبت عن المشرع، صلى الله عليه وسلم.

التحدي الفقهي المتعلق بعرفة أحصره في مسألتين: المسألة الأولى هي (وقت بداية الوقوف)، والثانية (مدة الوقوف)؛ ففي المسألة الأولى نجد فريقا يقول بأن وقت الوقوف يبدأ من زوال الشمس، كالأحناف والشافعية، وفريقا يقول بأن الوقت يبدأ من طلوع الفجر، كالحنابلة، ووقت الانتهاء بلا خلاف عند الكل، هو طلوع الفجر الصادق ليوم النحر، أما المسألة الثانية فهي (زمن الوقوف)، وفيها نجد فريقا يقول بأن اللازم هو التواجد ولو زمانا قليلا، خلال المدة المذكورة، كالأحناف والشافعية والحنابلة، وفريقا يقول بضرورة الجمع بين الليل والنهار يوم الوقفة، وفريقا يقول بأن الجمع بين الليل والنهار سنة وليس واجبا كالشافعية، وفريقا يقول بأن الوقوف المجزئ هو الوقوف بالليل كالمالكية، وكل هذه الآراء استنبطها الفقهاء واعتمدوا فيها على ما منحهم الله من فهم لواقع زمانهم، ومن فتش في القرآن والسنة فلن يجد هناك أي تحديد عن وقت الوقوف بعرفة ومقداره، بل سيجد ما يفيد بالتوسعة في هذا الأمر الجلل؛ فعن عروة بن مضرّس الطائي قال: أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالموقف يعني بجمع ـــ مزدلفة ـــ قلت جئت يا رسول اللَّه من جبل طيّئ؛ أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، واللَّه ما تركت من حبل ـــ تل ـــ إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟، فقال رسول اللَّه، صلى اللَّه عليه وسلم: «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه»..

أختم بأن العدد المأمول، ووسط المساحة المحدودة، ممكن جدا، بشرط توزيع الحجيج وتفويجهم على يوم عرفة بكامله، من الفجر للفجر ـــ من فجر عرفة لفجر النحر ـــ، وعدم الظن بأن هذا خلاف الشرع، فما ذكرته من أقوال يسند ذلك، أما التشديد كأن لا يسمح بالنفرة من عرفة إلا بعد الغروب، فهذا فيه ما فيه من تعسير، يقف الشرع منه على الضد.