تحاول الحكومة التركية في ليبيا الآن تطبيق سياسة «فرق تسد» التي اتبعتها الدول الاستعمارية. وتعمل أنقرة على تحقيق ذلك بوسيلتين اثنتين:

1- تعبئة الليبيين ذوي الأصول التركمانية لخدمة مصالحها

2- إثارة الفتنة بين العرب والأمازيغ.

وبدأ الإعلام التركي في ترويج مصطلح «الأقلية التركمانية»، وفي استخدام مصطلح «الأخوة التركمانية» للإشارة إلى الروابط التاريخية التي تجمع تركيا بالأشخاص المنحدرين من أصول تركمانية في المنطقة العربية عموما.

ويعتقد البعض أن حكومة إردوغان تعمل على تهيئة «الأقلية التركمانية الليبية» لحكم ليبيا والسيطرة على الدولة والنفط الليبي. الجدير ذكره أن الدول الاستعمارية انشغلت كثيرا أثناء حكمها الاستعماري بسؤال: كيف يمكن لأقلية أن تحكم أكثرية؟ وإذا كان إردوغان يراهن في الوقت الحاضر على استقطاب وحشد الليبين التركمان لجانبه، فإنه مخطئ وسوف تفشل الجهود التي تبذلها استخباراته في هذا الأمر. فالدراسات المتعلقة بالأقليات الإثنية في العالم تفيد بأن هذه الأقليات تصبح بعد عدة أجيال جزءًا من النسيج الوطني للدول التي تعيش فيها، وتتكلم لغتها وتنتمي لثقافتها الوطنية وتقدم أرواحها للدفاع عنها إذا لزم الأمر.

ولا أعتقد أن السراج في ليبيا ارتمى بأحضان إردوغان لأن جذوره تركمانية، ولكنه أصبح حليفاً تابعاً له لأنه إخواني تربطه به مصلحة سياسية مثل الغنوشي في تونس وعشرات الإخوان المسلمين في شرق العالم العربي وغربه.

وهناك من يعتقد أن تركيا ستحاول بسياسة «فرق تسد» في ليبيا إثارة فتنة إثنية بين العرب والأمازيغ، وعلى الرغم من أن الأمازيغ لا يشكلون نسبة كبيرة من سكان ليبيا إلا أن تركيا تحرص على إثارة هذه الفتنة، بسبب وجود الأمازيغ الواسع في دول المغرب العربي الأخرى.

الجدير ذكره أن الاستعمار الفرنسي حاول قديما إثارة الفتنة الإثنية بين العرب والأمازيغ في الجزائر والمغرب ولكنه لم ينجح في ذلك.

وأعطت سياسة فرنسا في هذا الأمر نتائج عكسية حيث قويت الرابطة الوطنية العربية الأمازيغية وتوسعت حركة مقاومة الاستعمار الفرنسي. ويبدو الآن أن الاستخبارات التركية في ليبيا تعمل بشكل جدي على إثارة هذه الفتنة للاستفادة منها في تدعيم نفوذها في ليبيا وتوسعته لدول المغرب العربي الأخرى، وستحاول حكومة إردوغان تنفيذ مخطط إثارة هذه الفتنة بأن تستفيد من الخطاب الأمازيغي المتشدد والمتطرف الذي تتبناه فئة صغيرة من الأمازيغ في دول المغرب العربي.

معالم إثارة هذه الفتنة من قبل الاستخبارات التركية في ليبيا لم تطف على السطح بعد، ولكنها ستظهر وسينكشف وينفضح أمرها قريبا.

وقبل عدة أسابيع صرح السفير الأمريكي في ليبيا بما يفيد أن جميع مناطق وفئات المجتمع الليبي يجب أن تأخذ حقها من خيرات ليبيا النفطية بما في ذلك البربر ويقصد بهم الأمازيغ. لماذا ذكر السفير الأمريكي الأمازيغ بالاسم؟ وهل يعكس ذلك تأثره بما تروجه الاستخبارات التركية عن اضطهاد الأمازيغ في ليبيا؟

وعلى أي حال فإنني أعتقد أن محاولة إثارة هذه الفتنة سوف تفشل بسبب عمق الرابطة الوطنية التاريخية التي تربط العرب والأمازيغ في المغرب العربي. ولا أعتقد أن إردوغان يعرف أن صقر قريش عبدالرحمن الداخل أقام في المغرب العربي عدة سنوات معظمها في طرابلس بليبيا بعد سقوط الدولة الأموية، وقبل دخوله إلى الأندلس وتأسيسه الدولة العربية الإسلامية فيها. هل يعلم إردوغان أن صقر قريش قد استعان بأخواله الأمازيغ من قبيلة نفزة أحد فروع قبيلة زناته الكبيرة في وصوله إلى الأندلس؟.

ينحدر الأمازيغ في المغرب العربي من ثلاث قبائل كبرى هي زناته ومصمودة وصنهاجة، ودخلت هذه القبائل الإسلام أثناء فتوحات الدولة الأموية، وانضمت إلى جيوش المسلمين. وكان النفزاويون من قبيلة زناته - كما يذكر ابن خلدون- ينتشرون في المغرب العربي كله، وكان لهم وجود ملحوظ أيضا في الأندلس التي كانت في ذلك الوقت ولاية تابعة للدولة الأموية.

وقام أخوال صقر قريش بني نفزة بحماية ابن اختهم وإخفاء تحركاته عدة سنوات، عاش معظمها في طرابلس التي أصبحت مقره الرسمي غير المعلن. ثم ساعد النفزاويون صقر قريش في عبور مضيق جبل طارق والوصول إلى الحصن العسكري الذي أصبح يعرف بالمونيكر لأن صقر قريش دخله متنكرا. ولقد سميت المدينة التي نشأت بعد ذلك في المنطقة «المونيكر» ويوجد فيها تمثال لصقر قريش.

أردت من ذكر هذه القصة توضيح الرابطة التاريخية التي نشأت بين العرب والأمازيغ في دول المغرب العربي وجمعتهم في شعب واحد. وقبل مناقشة هذه الرابطة العروبية الإسلامية لا بد من الإشارة أولا إلى ما ذكره المؤرخون عن التشابه الكبير بين العرب والأمازيغ، وأول إشارة تاريخية موثقة لهذا التشابه جاءت في وصف ابن خلدون للعرب والبربر (الأمازيغ) وتفسيره لأصول البربر المشرقية، وهجرتهم القديمة إلى المغرب العربي بسبب الجفاف والحروب. وأشار أحمد أمين في كتابه «ظهر الإسلام» إلى تشابه العرب والبربر في «الطباع والمزاج»، وذكر أن «البربر يشاركون العرب في البداوة والإسلام والعصبية القبلية والشجاعة». وتطورت نظرية تاريخية حديثة يقبلها الكثير من الأمازيغ ويرفضها بعضهم، وترى أن أصل بعض القبائل الأمازيغية يعود لليمن التي هاجرت قبل الإسلام بقرون طويلة إلى المغرب العربي واندمجت مع القبائل الموجودة فيه.

وإضافة إلى ما ذكره ابن خلدون وأحمد أمين وغيرهما كثير، عن التشابه بين العرب والأمازيغ، فلقد لاحظ أيضا هذا التشابه الروائي الأمريكي جان دوس باسوس الذي اختلط بأهل المشرق والمغرب العربي. ففي عام 1921 رافق باسوس العقيلات في إحدى رحلات قوافلهم من بغداد إلى دمشق، وفي عام 1925 زار باسوس الجزائر والمغرب وأمضى فصل الشتاء مع أهل البادية من العرب والبربر، وتنقل معهم، وكتب عن التشابه الذي لاحظه بين العرب والأمازيغ في الجزائر والمغرب وعن تشابههما مع العقيلات، والمهم هو القول إن التشابه بين العرب والأمازيغ في المغرب العربي ساعد على نشوء التلاحم الكبير بينهما وعلى اندماجهما وأنصارهما في شعب واحد.

فلقد أحب الأمازيغ الإسلام وأحبوا العرب حملة رسالته إليهم وأدركوا أهمية دور العرب في نشر الإسلام. ومع مرور الوقت أصبحت العروبة الإسلامية بمثابة الصمغ اللاصق الذي يجمع ويدمج العرب والأمازيغ بشخصية وهوية وطنية واحدة في مزيج تاريخي يندر وجوده في العالم. وفي ضوء هذه الرابطة الوطنية الانصهارية، يمكننا أن نجزم بفشل أي محاولة تقوم بها الاستخبارات التركية الآن لإثارة الفتنة بين العرب والأمازيغ في دول المغرب العربي، وأن نحكم أيضا بفشل أي سياسة إردوغانية تهدف إلى تهميش أو طمس السمة العروبية الإسلامية في المغرب العربي. ولا أعتقد أن إردوغان يعرف أو يدرك ما قاله العالم الأمازيغي الجزائري المجاهد ابن باديس يرحمه الله في بداية القرن العشرين عن عروبة الإسلام وعن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومفاده أن الرسول العربي الكريم هو قائد وزعيم العروبة الأول، ونبي ورسول جميع المسلمين، ومن حقيقة نبوة الرسول العربي وصدق رسالته تأتي أهمية العروبة في الإسلام كما أوضح ابن باديس.

وللحديث بقية....