إيران وتركيا والإخوان المسلمون، دولتان لهما وهم إمبراطوري، وتنظيم يحمل وهماً إمبراطورياً أوسع منهما، ولهذا ركبته الدولتان، بينما أمريكا التي لم يتجاوز إرثها الحضاري مهاجرين من كل بقاع الدنيا، والذي بدأ مع استقلالها عن مملكة بريطانيا العظمى عام 1776، هي عصا التاريخ الحديث وجزرته في آن واحد.

نشأ النظام العالمي الجديد بعد صراعات وحروب تؤكد نتائجها أن الطموح الإمبراطوري يشبه الإسراف في تعاطي المكملات الغذائية والهرمونات لبناء كمال الأجسام، في النهاية الوفاة بتضخم القلب، ومما يغفل عنه الكثير أن الصراع بين الصين وأمريكا لا علاقة له بإرث الصراع ما بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، بل صراع يدور حول تخاذل الصين عن إظهار أي استراتيجية واضحة في أمن الشرق الأوسط فهي صديقة الجميع، تريد أن تكبر وتكبر دون مسؤوليات الكبار وواجباتهم الدولية.

روسيا لها تجربة (في الاستنزاف الإمبراطوري إبان الاتحاد السوفيتي) تجعلها تتناغم مع ما يفرضه العالم الجديد الذي تريد أمريكا من يشاركها في حمل أعبائه، فسياسة أمريكا بعيدة المدى (هي التخفف) وتوزيع الأحمال، فلا تريد في يوم من الأيام أن تظهر عليها أعراض (تضخم القلب) كما حصل مع (بريطانيا العظمى) التي لا تغيب عنها الشمس (أيام زمان).

الإشكال في إيران وتركيا وأحلامهما الإمبراطورية القديمة بأدوات متخلفة حضارياً، وهذا التخلف في الأدوات هو ما جعل الدماء تسفك هنا وهناك، وهل يوجد تخلف في الأدوات أكثر من التوسع عبر اجترار أحلام (الخلافة الإسلامية) ودماء (كربلاء)، هل يعقل أن يعود العالم المتحضر في أوروبا لاجترار أمجاد الصليب المعقوف ليعتدي على دول الجوار، أو ينتقم (ليسوع من اليهود)، أو حتى اجترار التهم المتبادلة ما بين كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس.

الشرق الأوسط يريد اجترار تاريخه، لا لأن هناك مؤامرة بقدر ما هناك استعداد بنيوي فما زالت كل أعراض (القابلية للاستعمار) حاضرة، وفي اجترار التاريخ اجترار للقيح والصديد الذي ملأ جروحه، ولم تسمح الأصولية الدينية للمفكرين أن يضعوا الملح المطهر (التفكير النقدي) على هذا القيح والصديد، فترى الدنيا تقوم ولا تقعد، لأن أحدهم مثلاً شكك في نقولات رجل ولد بعد قرنين من الهجرة أو حتى سبعة قرون، فترى المسلمين يمنحون العصمة لعشرات بل مئات الرجال والكتب التي جاءت خلال ألف وأربعمائة سنة حتى زمننا هذا، يرددون (كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر)، ويرسبون في أول اختبار عملي لهذه الكلمة.

الشرق الأوسط الجديد، ها هو يسير في طريقه كما تقرره الحضارة الأعلى على المجتمعات البدائية، والفرق هو في الانتقال من خطة (أ) إذا فشلت، إلى خطة (ب)، والمآلات تعود بالنفع على الأنظمة القادرة على الإمساك بمعنى (الدولة الحديثة).

مرتكز الثبات القادم يتكئ على (الدولة الحديثة) لأنه يستتبع معنى (المواطنة) فكل الخلايا النائمة والطابور الخامس وما شئنا من مصطلحات تشير إلى العاملين أو المتعاطفين مع إيران وتركيا والإخوان المسلمين، إنما هم وجدانياً نشأوا في دول تجاهلت لسنين طويلة مفهوم المواطنة وترسيخه من خلال القانون المحايد الموضوعي في وجدان شعوبها، ليشعر المواطن باستحقاقاته بعيداً عن أي مظهر (طائفي أو عرقي) من مظاهر ما قبل الدولة الحديثة، والتي استغلها الإخوان المسلمون في تأسيس خرافاتهم الدينية في (الخلافة الإسلامية) التي على مستوى الصحابة الكرام أدت إلى مقتل ثلاثة من أصل أربعة خلفاء، فكيف ستكون نظرية الخلافة الإسلامية في من بعدهم، ومن عداهم.