ما زال (كورونا) يثير في النفس الكتابة في المسائل التي كان البعض يظنها مسلمات قطعية، وهي في حقيقتها ليست كذلك، ولم يساهم في هذا الظن إلا الرغبة في أن «من ليس معي فهو ضدي»، مع أن اختلاف الأفهام، وتباين العقول، وتمايز مستويات التفكير، فطرة كونية.

لفت الأنظار تطبيق التباعد الاجتماعي بين المصلين في المصليات الداخلية كافة بالحرمين الشريفين، والجوامع والمساجد المختلفة في العالم، وذلك ضمن الإجراءات الوقائية لمنع وصول فيروس كورونا للناس، وكان منظرا مهيبا وقوف المصلين متباعدين، وهو تباعد بلا شك من المحمود في ظروف كورونا، وذكرني سريعا بأيام ما قبل (كورونا)، حيث كان المصلي في المساجد والجوامع يعاني كثيرا من الفهم غير الصحيح لحديث: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ..» وحديث «اسْتَوُوا..»؛ وكانت المعاناة كبيرة من بدعة (إلصاق القدم في القدم)، وأن الصلاة في ظنهم ناقصة دون الإلصاق، وللأسف من يتباعد تتم ملاحقته بطريقة غليظة جدا، وفيها غلو كبير، وحجتهم تعليق سيدنا النعمان بن بشير على حديث «كان النَّبِيُّ يسوينا في الصفوف كما يُقوم القِدْح حتى إِذا ظن أَن قد أَخذنا ذلك عنه وفقهنا أَقبل ذات يوم بوجهه إِذا رجل مُنْتَبِذٌ بصدره، فقال: «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم»؛ بقوله رضي الله عنه: «فرأيت الرجل يُلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه»، وهو الذي أفادنا به الحافظ ابن حجر رحمه الله في باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، من كتابه (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) بقوله: «المراد بتسوية الصفوف: اعتدال القائمين بها على سمت واحد، أَو يراد بها سد الخلل الذي في الصف»، وهو ما يعني أن إِلصاق العنق بالعنق مستحيل، وإِلصاق الركبة بالركبة مستحيل كذلك، وإِلصاق الكتف بالكتف تكلف، وإِلصاق الكعب بالكعب معاناة، ويعني كذلك أَن المحاذاة في الأَربعة: العنق، والكتف، والركبة، والكعب مقصود منها الحث على إِقامة الصف والموازاة، والمسامتة، والتراص على سمت واحد، بلا عوج، ولا فُرج، وعن ذلك يقول الإمام الخطابي، في معنى ما يُروى عن حديث «خياركم أَلينكم مناكب في الصلاة»، بقوله رحمه الله في باب تسوية الصفوف من كتابه (معالم السنن): «معنى لين المنكب لزوم السكينة في الصلاة، والطمأْنينة فيها، لا يلتفت، ولا يحاك منكبه منكب صاحبه»..

أختم بأن تسوية الصفوف بمعنى اعتدال القائمين، وعدم تقدم بعضهم على بعض، وسد الفُرَج فيما بينهم، سنة مؤكدة، وليست من الواجبات، وتكون بالتأليف والمحبة والرفق، ولم تشرع إلا لتكون مظهرًا من مظاهر التآلف بين المسلمين؛ أما التكلف في إلصاق القدم بالقدم، وإلصاق الأصبع الأصغر لمقابله من الشخص الآخر والمبالغة في ذلك غير مطلوب شرعا، ويكفي تراص القدم مع القدم، وأن تكون المساواة بالعقب، وليس بأطراف الأصابع.