تعتل النفس ويسقم العقل، كم هو واقع البدن، مثل هذه العلل التي تُصيب النفس والعقل ليست كمشاكل البدن، فهي أشد ضراوة وأكثر معاناة، فقد قيل إن الألم النفسي أكثر إيلاما من ألم البدن من ناحية، كم أنه من الميسور التعاطي مع الألم الجسدي مُقابل الألم النفسي والذي يقف عنده الشخص حائرا، فلربما من يُعاني ألما نفسيا قد لا يستطيع البوح به ولا يسعى لعلاجه، فوفقاً للمراجع العلمية، هناك الملايين من الناس يُعانون اضطرابات نفسية «غير مُشخصة» ولا يسعون للعلاج النفسي لاعتبارات اجتماعية وثقافية وحضارية ولضعف مُخرجات الصحة النفسية، ليس في الدول النامية فحسب وإنما في الدول المُتقدمة، حتى خيل لي أن من يسعى لطلب المُساعدة النفسية أشبه بمن يطلب الجراحات التجملية «Cosmetics» ولعل شركات التأمين والضمانات الصحية تعرف ذلك من خلال تغطيات الاستشارات النفسية والعلاج النفسي!!

الحديث هنا ليس من أجل الاضطرابات النفسية فحسب وإنما الهدف أن نُحافظ على الناس «أصحاء نفسيا» من خلال الوقاية من المرض النفسي، ليمتد الطموح ليشمل كيفية جعل الناس «سعداء» بتنمية قواعد الصحة النفسية وتعزيزها، فهذا مطلب، فمن حق كل شخص أن يمتلك أعلى درجات جودة الحياة.

من المقبول القول إنه بالإمكان تنمية صحة نفسية مُستدامة بحول الله وتعزيزها وكذلك الوقاية من المرض النفسي تحت قاعدة أن «الصحة النفسية تُنمى وتُعزز وأن المرض النفسي يمكن الوقاية منه»، متى ما تحققت التوعية النفسية الحقة ببرامج علمية - مهارية - تدريبية تستهدف الفرد والأسرة والمُجتمع برمته، وكذلك المُؤسسات لمُجتمع «خال من المُعاناة النفسية وسعيد»، فمثل هذا حق للجميع!!

تحتوي برامج تعزيز الصحة النفسية على؛ أولاً تنمية «Development» قواعد الصحة النفسية، فهناك من لا يعي ولا يعرف هذه القواعد أصلا ولا يمتلكها، ويعتقد أنه ليس بالإمكان أن يكون الفرد «صحيحا نفسيا» وليس في يده أن يكون «سعيدا» وأن المُعاناة النفسية «حتمية»، فعندما تطرق الباب وفقاً لهواها، فليس بالإمكان سوى الترحيب بها والارتماء في أحضانها، والسعادة «مُنتج» يُباع في أقرب «صيدلية» أو «بوتيك»؛ وثانياً تعزيز «Promotion» هذه القواعد الصحية النفسية، لتصبح مُستدامة «Sustainable»، المُحصلة سعادة تُفضي لجودة حياة ووقاية من المرض. قد يقول «مُتشائم» وماذا عن الأقدار السيئة التي ليس للفرد فيها دور؟ وماذا عن نقص الحاجات وخبرات الفشل الحتمية؟ وماذا عن كدر الحياة، فقد طُبعت على كدر وأنتم تريدونها صفوا من الأقذاء والأكدار؟ نقول «بطل» عجلة التشاؤم واعلم يقنيا أن الجميع يأتي في ثنايا برامج «تنمية الصحة النفسية وتعزيزها» متى ما كانت علمية - مهنية - تدريبية - مُوجهة!!

تستهدف برامج تنمية الصحة النفسية وتعزيزها «الفرد» في عمقه النفسي «Deep Psychic» وفي فكره وسلوكه وعواطفه وإدراكه لقدراته وتوجيهها الوجهة الصحيحة وتقديره لذاته واحتياجه وسماته وخصائصه الشخصية وكفاءته الذاتية، ودوافعه وتنمية ميوله ورغباته وقبوله لواقعه وتطويره، وتنمية سلوكه الصحي وتحسين نمط حياته الخ. والأسرة في بعدها الفردي -الأسري والأسري- الأسري وتنمية مهارات التواصل بين جميع أفرادها ووضع خطوط الوصف الوظيفي لكل عضو وتنمية وتعزيز مهارات حل المُشكلات والتدخل الأسري المُبكر وتوجيه ديناميات «Dynamics» الأسرية وجهتها الصحيحة وكسر حواجز العزلة وتعزيز مهارات الحوار والتعاطف والمُشاركات الوجدانية وتنمية السلوك ونمط الحياة الصحي الأسري وتوزيع الأدوار الأسرية حسب الكفاءات الأسرية الخ..، وكذلك المُجتمع من خلال بناء العلاقات الاجتماعية الصحية والتواصل الاجتماعي واتزان ديناميات الجماعة، وأثر سلوك الفرد على المُجتمع والعكس، وتعزيز الجميع والقبول الاجتماعي والتسامح والسلم المُجتمعي وتنمية دور التجمعات المُجتمعية الهادفة من خلال مراكز الأحياء والسلوك المُجتمعي الأمن الخ..، يمتد الأمر ليشمل تنمية وتعزيز الصحة النفسية في بيئات العمل وتنمية مهارات التواصل الشخصي والمهني والتعاطي مع ضغوط العمل، وجعل بيئات العمل آمنة، وتطبيق سياسات العمل وإجراءاته وإتاحة الفرص للجميع وفقا للكفاءات العلمية والمهنية الخ..

يُضاف لذلك كله تنمية وتعزيز برامج الصحة النفسية التخصصية لفئات مُحددة مثل الأطفال والمراهقين وذوي الاحتياجات الخاصة والأيتام والمرأة وكبار السن ومُصابي الأمراض المُزمنة الخ..، أو بيئات عمل ذات طبيعة تخصصية مثل تعزيز الصحة النفسية التعليمية والصحة النفسية المهنية والصحة النفسية في المجال العسكري والأمني والسجون والإصلاحيات الخ..

يُحيط بتنمية الصحة النفسية وتعزيزها العديد من المفاهيم الخاطئة ومنها هيمنة النموذج الحيوي-الطبي على برامج التنمية والتعزيز، والذي يرى أن الصحة النفسية تعني الخلو من المرض النفسي، وبالتالي فبرامج تعزيز الصحة النفسية هنا ذات طبيعة علاجية صرفة وهذا مفهوم خاطئ، تنمية الصحة النفسية وتعزيزها «سلوك» لا يمكن تنميته وتعزيزه بحبة دواء أو مشرط جراحي، والأمر الآخر هو أن تنمية وتعزيز الصحة النفسية لن يأتيان من خلال أنشطة مُحدودة بزمان ومكان، ترتبط بمُناسبات صحية، ولا من خلال منشورات تثقيفية ولا برامج إعلامية وأنشطة تواصل اجتماعي، وإنما من خلال برامج علمية - مهارية - تدريبية مُركبة «Structured» بمهنيين في مجال السلوك الإنساني وتطبيقاته الصحية بكفاءات «Competencies» علمية ومهنية عالية لتحقيق المطلوب.

الحاجة هنا ماسة لتوظيف مُعطيات العلوم السلوكية في المجال الصحي لتنمية وتعزيز الصحة النفسية، تحقيق مثل هذا الهدف يصب في رؤية المملكة «2030» الطموحة وفي المشروع الوطني لجودة الحياة، للحديث بقية.