وصفوها بالأغنية التي تنسى دائما أن تكبر، وقالوا عنها إنها تجعل الصحراء أصغر، وتجعل القمر أكبر، ورأوها آية في الروعة وغبطة للأرواح، عشقت التراب وأنعشت الكفاح، مَن نسيها قد أغفل البحر وعذّب الصباح، كتبت الحب على الحور العتيق، وغنت مع شادي سوى، وكان في ثلج وهي تكبر وشادي بعده زغير، ثم لأجل مدينة الصلاة وزهرة المدائن، عانقت الكنائس ودارت في أروقة المعابد، هي فيروز أيقونة الشرق وسماء لبنان، جليسة الروح ورائحة المكان.

ليس من قبيل الصدفة أو عبثية الاختيار أن يعلن قصر الإليزيه أن الرئيس الفرنسي ماكرون على موعد مع فيروز، وليس من الغرابة في شيء أن يستهل ذلك السياسي المحنك والدبلوماسي العنيد زيارة لبنان بفنجان قهوة على طاولة فيروز، ففي زيارته لفيروز ربما نبوءة من خير وومضة من أمل، ما دام سيجلس مع من أجمع اللبنانيون على عشقها، وما دام سيلتقي مع من أدمن وتاه الشرق في غرامها، فقد دخلت قلوباً بلا أبواب، وتمددت في أرواح الحالمين والأحباب، وفي زيارته رسالة صريحة ونتيجة مؤكدة، أن سياسيي لبنان قد فشلوا في لمّ كلمته، وبأن ما تيسّر من أفرقائه وطوائفه قد عجزوا عن لملمة جراحه وحلّ معضلاته، وفي زيارته ربما نداء الفرصة الأخيرة لمن يهمه الأمر في لبنان، بأن لبنان الجريح قد تجاوز مفترق الطرق وتدحرج إلى ربما ما لا يُحمد عقباه، وفي زيارته الهادئة إلى قطب ومركز القوة الناعمة لبنانياً، تأكيد والتزام بدعم لبنان وتبني قضيته، بعيداً عن مفردات الماضي وغياهب التفاصيل، وأيضا في زيارته تلك تذكير للدنيا بأن لبنان رغم كارثته المشؤومة وتحدياته العالقة، هو منارة للفن وقصة للحضارة، يقصده من طلب الإبداع وطاول الرقي، وها هي فيروز رغم كهولتها وغيابها، تنعش الحاضر وتهزم السياسيين وهي صامتة في بيتها الوقور.

لقد انتقد البعض تلك الزيارة كونها قفزة عن الواقع كما رأوها، واعتبروها مجرد "بروباغندا" سياسية بأدوات فنية، وبأن توقيت تلك الزيارة غير ملائم، ونسوا عقود التراشق السياسي والإعلامي الكئيب في لبنان، وسنين وشهور الشغور الرئاسي والنيابي المتكرر، ودهاليز المحاصصة ومسارب الفساد والتردي، ثم أي توقيت يناسب لبنان! بينما ما تزال جراحه غير مضمدة وركام كارثته وقمح صوامعه حاضر للعيان، وجائحته تتمايل في مهب الريح، فما المشكلة في دعمٍ واهتمامٍ فرنسي لبنان في أشد الحاجة إليه، وما المعيب في زعامة فرنسية تستأذن في زيارة أكثر القمم اللبنانية الفنية ارتفاعا، وتحتفي بمن أخبرت باريس وغنت لها، وتحدثت لها عن وطنها الجريح، الوطن اللي متوّج بالخطر وبالريح!

سيغادر ماكرون بيت فيروز فرحاً بزيارته، وسيغادر لبنان حاملاً ما أبلغ ساسة لبنان من جعبته، فهل سيشد الضمير الوطني اللبناني رحاله إلى بيت فيروز، وهل سيكفي وينتهي ما لذّ وطاب في مطبخ الصراعات اللبنانية بماضيها وحاضرها، فتبتسم فيروز وتغني...."بيقولوا مات وما بموت...وبيرجع من حجارو يعلي بيوت".