لا أحد منا يستطيع تفسير نشوتنا عند مشاهدة صراع البشر مع الثيران، فيما يعرف برياضة مصارعة الثيران، التي يشاهدها جمهور غفير في انتظار نتيجة الحسم في مصارعة الإنسان مع الثور التي ستنتهي بموت أحدهما. فهل هذه النشوة التي نشعر بها ونحن نشاهد مقاتل الماتادور وهو يغرس سيوفه في جسد الثور، مردها الحاجة الدفينة لإشباع البهيمية في دواخلنا؟

هذا الجمهور الغفير الذي يشاهد الثور المسكين وهو يتلوى ويتعذب حتى الموت، يعيش دقائق العنف وإراقة الدماء وهو أشبه بالمخمور أو المسطول وقد انتقل من حالة الوعي إلى حالة اللاوعي، وهذه الحالة اللا واعية للمشاهد، وهو يتابع الثور السابح في دمائه ويترنح في طريقه للموت، قد أخرجت الأحاسيس والمشاعر الكامنة في دواخلنا التي تؤكد أننا نستمتع حقيقة بمشاهدة العنف وأن العنف عند الإنسان لا زال سرا من أسرار النفس البشرية.

إن العنف في بعض جوانبه يمثل شكلا من أشكال الترفيه عند الإنسان، فلعبة كرة القدم، الأكثر شعبية في العالم، يمثل العنف جزءا لا يتجزأ من إثارتها، ونحن المتفرجون نشاهد اللاعبين يؤذي بعضهم بعضا، ونتقبل هذه الأذية والعنف بين اللاعبين لأنه جزء من اللعبة. يقول الكاتب المصري أنيس منصور في كلام ظريف حول العنف في كرة القدم: «إن اللاعب يرضى مقدما أن ينكسر وأن يقع على الأرض، وإذا طال وقوعه على الأرض فإن الجماهير تطالب بإخراجه حتى لا يتوقف اللعب، فاللعب أهم من اللاعب، والمتعة والإثارة هما الهدف. فاللاعب المكسور على الأرض يفسد هذه المتعة، وقد يكون اللاعب المكسور هو مصدر المتعة، هو الذي أحرز هدفا بعد هدف، ولكنه في هذه اللحظة يوقف مسار الإثارة، ولذلك يجب أن يخرج. هذه القسوة من المتفرجين يقبلها اللاعبون، كما يقبلون الإهانة والبهدلة من المتفرجين».

وفي عالم الملاحم والأشعار، كانت أناشيد الحروب والقصائد المنظومة، تتغنى بالشراسة والعنف وبإحساس السعادة من خوض المعارك وما يصاحبها من صيحات الألم المنبعثة من العدو، فكل آداب وملاحم الشعوب كانت تمجد الحروب والمحاربين وتمجد الفرسان الذين يدكون حصون الأعداء ويغتصبون ممتلكاتهم.

فلا يوجد ثمة شك أن العنف يعتبر من ثوابت تاريخ الحضارات البشرية، فالعنف لم يختف في كل العصور والأزمنة، فهو ملازم لمسيرة الإنسان عبر جميع حضاراته، حتى في القرون التي رفع فيها الإنسان المتمدن شعارات التسامح والإخاء والتنوير، فالعنف ظل حاضرا على الدوام بوصفه تهديدا مضمرا، لم نستطع تفسير دوافعه ومسبباته، ولم نستطع تحجيم القدرة التدميرية للعنف عند الإنسان، أو فهم الظروف التي ينفذ في ظلها الإنسان العنف أو يوجهه أو يحدد مقداره.

ففي المجتمعات المسالمة الحديثة، يرد علينا العنف بوصفه حدثا استثنائيا خارجا عن المألوف، فنحن ننكر وجود العنف في حياتنا وفي حاضرنا، وحتى نعيش الحاضر بسلام ونتعايش يجب علينا أن نقطع كل الصلات مع الماضي وفظائعه، هكذا نبرر لأنفسنا، لأننا نعتقد أن السلام الظاهري الذي نحياه في المجتمعات المسالمة هو الأصل وما عداه فهو استثناء، لذلك نحن نربط أعمال العنف والتدمير بالماضي والتراث لأن الأخلاف يرثون العنف عن أسلافهم -كما يعتقد البعض-، ولذلك يجب قطع العلاقة معهم حتى يختفي العنف من حاضرنا الوادع الجميل، وهذا التبريرات السطحية لا تقدم تفسيرا مقنعا لظاهرة العنف، بقدر ما تعكس رغبتنا اللاواعية في إضفاء المنطق لوجود العنف الاستثنائي في مجتمعنا المسالم الذي يسوده الأمن والسلام.

إن أحداث العنف صادمة وذات وقع شديد على النفس، فنحن نعجز عن تفسير فظاعتها وقسوتها، لذلك فقد نشعر باضطراب وعجز عن الفهم عندما نجد تلاميذ في المدرسة يستخدمون السكين في شجاراتهم أو عندما يوجه شاب في الشارع ضربات بأقصى درجات الوحشية لشاب آخر، أو عندما يقوم الجنود في المعركة بتعذيب خصومهم وتصفيتهم بوحشية ثم رميهم في مقابر جماعية وكأنهم قمامة بشرية لا قيمة لها.

أعمال العنف التي تتداولها وسائل الإعلام في كل ساعة وكل دقيقة، لا زلنا نحاول أن نعطيها منطقا مقنعا يجعلها مجرد أحداث استثنائية خارجة عن إطار حياة التمدن والتحضر والتحديث، لذلك نحاول أن نعطي علاقة سببية بين عنف الأسلاف وعنف الأخلاف، عن طريق ربط أحداث العنف في الحاضر بأحداث عنف شبيهة في الماضي، أو ربط الأعمال الانتحارية التي تحدث اليوم بين المدنيين بقصائد قديمة أو شيلات حماسية يتغنى فيها الشاعر ببطولاته وحروبه المظفرة، التي استطاع فيها أن يجندل الأعداء ويكسر شوكتهم، وليس أغرب من كل هذا إلا ربط العنف بمناهج التعليم أو بفتوى مدفونة في أحد كتب التراث.