في عالم تشابكت وتقاطعت فيه وسائل وأدوات صناعة الإعلام بأنواعه المتعدّدة، وفي زمن تلوّنت وربما غرقت فيه مصداقية الإعلام تحت مسميات حرية الرأي التي طاولت سقوفها عنان السماء، وفي تيهٍ عميقٍ بين ما نسمع وما نرى وما نصدق، وبلغةٍ منمّقةٍ تجعلنا نحلم ونتأمل ونتوقع تارة، وبواقع لا بد أن نصحو مرغمين من غيبوبته تارة أخرى، فندرك ونعقل أن ما قُدّم لنا ربما كان غير صادق وغير حقيقي وغير موثوق فيه، وفي ذلك العالم المسلّح بصوته وصورته، والمتمدّد بسرعته وسطوته، والمتزاحم بجرأته وأسبقيته، هل أصبح الرأي وسيلة مشرعنة لمن يرويها! وهل غدت أخلاقيات العمل الإعلامي مسألة فيها وجهة نظر، يحكمها الهوى ويُقلّبها القدر!.

قد يكون المشاهد راضياً ومتصالحاً مع ذاته، كون كل منبر إعلامي يصدح بما في جعبته، يبرر لسياسته ويسوّق لأجندته، فهذا شأن تلك الحرفة ما دامت تراعي ما تيسّر من الصدق وتجافي ما تيسر من التهويل والمبالغة، فكانت قناة الجزيرة القطرية ربما أول من ركب أمواج ذلك الأثير المستهجن، وقدمت ما حسبه كثيرون نافذةً واعدةً في جدار الصمت والانغلاق، لتتكسّر وتتهشّم مصداقيتها المفترضة بعدئذ بين مطرقة النفاق السياسيّ وسندان الغايات المشبوهة، يعيها ويبصرها ربما من أيقظ فطرته واستشار إنسانيته، فالجزيرة تتفنن في الانحياز والمحاباة كلما رغب منظّروها وساستها، فإيران القمع والقهر واستبداد المرجعيات والعمائم قد صورتها الجزيرة واحةً من الحرية ورغد العيش، وأذرع إيران المشبوهة رسمتها الجزيرة أطرافَ خير ودعاة محبة، والجزيرة تسلّط ضوء الشمس متى أرادت وتطبق وحشة الليل متى رغبت، ويكفي هنا اجتماع وزراء الخارجية العرب للبحث والتنديد بتوغل القوات التركية في الشمال العراقي، والذي لم يجد لانعقاده سطراً ولا لبيانه روحاً على تلك الشاشة العريضة.

والجزيرة لا تقبل الصوت الآخر ولا تستضيف الرأي المغاير إلا إذا أعدّت له ما جادت به قريحة أقطابها من التضييق والازدراء وربما الطرد أحيانا، ناهيك عن قلب الحقائق وعدم تقديمها كاملةً لغايات في نفس يعقوب، فالدنيا ترى وتعرف الدور التركي البغيض في تعقيدات وتوترات شرق المتوسط، وتدرك كمية المناشدات الأوروبية والأممية للقيادة التركية لإيقاف تحرشاتها المفضوحة وبلطجتها الراكضة نحو منابع النفط والغاز، ولإلغاء تلك الخرائط المضحكة والخطوط الهزيلة على رقعة ذلك البحر المتلاطم جيوسياسيا، والتي تُشكر أنقرة كون مياهها الإقليمية لم تصل حدود البرازيل ولا شواطئ الأرجنتين ولم تدّعِ ملكيتها لجزر الفوكلاند، فتنبري قناة الجزيرة مهللة للدعوة التركية المتخيّلة للتفاهم والتفاوض والتشاور والقبول بالعرض الروسي للحوار، الذي تأسف الجزيرة كونه يتكسّر أمام الرفض اليوناني والتعنت الفرنسيّ على حد وصفها!.

قد يُختصر الموقف بكلمة ويُعبّر عن الكيد بمجرد سطر، وفي عاجل الجزيرة إشارة وبرهان، وفي عاجلها ربما طعنة من الحقد وقدح من السمّ، فعند الحديث عن ميليشيا الحوثي المدعومة والمأمورة إيرانيا، تلك المجموعات التي أجرمت وجوّعت وعطّشت بحق اليمن حاضراً ومستقبلا، والتي لا تتوانى عن إرسال مسيّراتها الخائبة وقذائفها البغيضة وصواريخها المدنّسة، صوب ذاك الدور السعودي المقدس يمنياً وعربياً والمقدّر دولياً وإنسانيا، نجد الجزيرة تلمّع الشراذم وتنفخ الأقزام وتكتب بالغلّ بأن «سلاح الجو المسيّر الحوثيّ وقوته الصاروخية قد نفذا عملية استهدفت هدفاً مهما في الرياض»!!، متناسية مشاركة الأقمار الصناعية الحوثية والغواصات الحوثية التي تعمل بالطاقة النووية في تلك العمليات النوعية!.

أما في تناول الشأن المصريّ فحدث ولا حرج، فقتلة الأبرياء ومفجري الكنائس اعتبرتهم الجزيرة ثواراً وأصحاب رأي، وشهداء الجيش والشرطة المصرية قد احتسبتهم الجزيرة ضحايا لحماية نظام ورئيس، ومنظرو الأفكار التكفيرية وشذاذ الآفاق وعطشى الدماء قد استضافتهم الجزيرة مكرّمين كما لو كانوا حماة للبراءة والطفولة ودعاة ضد التصحّر والاحتباس الحراري!.

مها تفننت الجزيرة أو غيرها في خلط الغثّ بالسمين وتغطية السمّ بالعسل، ستبقى مسؤولية المشاهد العربيّ الفكرية ووعيه الأيديولوجي الذاتيّ خندقه الحصين، وخط دفاعه الأول ضد ما يلوّث سمعه وبصره وبصيرته، وستبقى دعائم ذلك الإعلام الكريه تتهاوى الواحدة تلو الأخرى.