بين الفينة والأخرى تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية مادةً مرئيةً أو مقروءةً أو مسموعةً يُفتحُ على إثرِها ملف إساءة الرئيس الأجنبي لمرؤوسه السعودي، وتعيد تلك المادة إلى الأذهان كل المواقف السابقة المُتعلّقة بهذا الملف الذي يُثير حَنَق السعوديين ومُمَاحَكَتهم كلما تمَّ المَساس به، ولا غَرْو في ذلك، فغالبيتهم يُلخّص المشكلة في أنها حرب بقاءٍ أو حرب مصالح يشنّها وافد أجنبي ضد مواطن سعودي على أرضه، تحت غطاء محافظة الأول على موقعه الوظيفي وديمومة دوران عجلة مصالحه.

بقراءة من زاوية مُختلفة للمشكلة، فإن الأجنبي مهما طال أمَدُه سيعود أدراجه، سيما مع أنظمة العمل التي تسعى للتوطين، والسؤال الذي يُزجي بنفسه هنا: هل بمغادرته ستخمد الحرب بين المدير والموظف وتنتهي إساءات المديرين لموظفيهم؟!

بالطبع لا، فحرب البقاء والمصالح ليس بالضرورة أن ترتبط بقطبٍ أجنبيٍ وقطبٍ سعوديٍ، فقد تكون بين قطبين سعوديَين في وطنهما أو قطبين أجنبيَين على أرضٍ مُحايدة، وبالتالي ستتغيَّر حسبتها وتختلف معالمها، لكن بالتأكيد سيكون لها زَخمٌ واحدٌ، وهو المحافظة على البقاء الذي من أجله اندلعتْ تلك الحرب، فأمام المصلحة الشخصية تنصهر الكثير من الاعتبارات وتتلاشى الكثير من القِيَم، وتُمسي مُجرَّد شعارات تَقطُن في الذاكرة دون أن يكون لها وجود على أرض الواقع.

في حرب البقاء والمصالح -في بيئات العمل تحديدًا- لا فرق بين مدير سعودي ومدير أجنبي، فمن سيُقصيك لمصلحته الشخصية لن ينظر للوشائج المشتركة بينك وبينه، لأن عنصر الاختلاف بينكما -وهو المصلحة الشخصية- أهم في نظره من حفنة الوشائج المشتركة مُجتمِعة، وبالنسبة للإساءة، فهي واحدة بغض النظر عن جنسية مُقترفها، ولا أتخيّل أن تكون الإساءة مقبولة لمُجرَّد أنها صدرت من مديرٍ سعودي مثلًا.

هناك عِدَّة ذرائع تتمخَّضُ عنها تكتلات صلبة في أروقة العمل، من بينها الجنسية والمنطقة والقبيلة والطائفة والقُربى والصداقة، ويقول د.غازي القصيبي في هذا الصدد: «لا شيء يقتل الكفاءة الإداريَّة مثل تحوّل أصحاب الشلَّة إلى زملاء عمل»، لكن في مراحل متقدمة ستضيق الدائرة شيئًا فشيئًا، ويتهاوى الجميع أمام طوفان المصلحة الشخصية، فمَن كان ينتصر لابن قبيلته أو يتضامن مع ابن منطقته أو يتحالف مع ابن طائفته، فإنه في النهاية سوف ينبري للذَبِّ عن ذاته والذَود عن مصلحته الشخصية، متى ما شعر أن مَن كان ينتصر له وينافح عنه أصبح ينازعه كُرسيَّه ويُشكّل خطرًا جسيمًا عليه.

في ظل الصراعات الإدارية المُحتدِمة التي خاضتها كبرى الشركات في كل زمان ومكان، ابتُكِرَتْ حلول إما طفيفة مثل التدوير أو النقل بين الأقسام، أو حلول فرعية مثل استحداث أقسام جديدة أو إلغاء أخرى، أو جذرية مثل اعتماد هيكل تنظيمي معكوس رأسًا على عقِب أو أفقي، وفي هذا الصدد يروي حسن حدَّاد الذي كان يعمل خبيرًا في إحدى الشركات المُتخصِّصة في التنمية الدولية في واشنطن، أن في أحد اجتماعات الشركة السنوية اقترح أحد الموظفين على رئيس الشركة اعتماد هيكل تنظيمي معكوس تحوَّل من خلاله أعضاء الطاقم التنفيذي إلى روّاد للإنجاز والإنتاج، فيما تحوَّل رؤساء أعلى الهرم إلى مجموعات لدعم عمل مَن هم في الواجهة يوميًا، وفي المحصلة كان الاقتراح مفاجئًا للجميع، لكنه شكّل رؤية جديدة في العمل وحقق نجاحًا باهرًا دعا الشركة إلى أن تصبح مثار اهتمام الكثير من خبراء الإدارة مثل ستيف كير ورون أشكيناس.

لا شك أن قلب الهيكل التنظيمي ليس بالأمر السهل، لا سيما بالنسبة للشركات الكبرى ذات الهياكل التنظيمية المعقدة، لكنه ليس هدفًا، بل الهدف هو الحصول على تصوّر جديد لأدوار الموظفين وإخراجهم من صومعتهم وإعادة اكتشاف مكامن القوة وتقويض مكامن الضعف فيهم، وبالتالي وضعهم في مواقع ملائمة لاستجلاب إبداعاتهم ومحفزة لرفع إنتاجيتهم، بعيدًا عن مناطق الحُمى والحروب الجانبية التي تستنزف طاقاتهم وتُبدِّد تركيزهم دون جدوى.