رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، ولم يتجاوز حدوده، فهو إن تكلم تكلم بعلم وعدل، وإن سكت سكت عن بصيرة وفقه، لا يستخفه الذين لا يوقنون، ولا يزحزحه عن اتزانه واعتداله المزايدون، ولا يجعل دينه عرضة للخصومات، ومطمعاً لمآرب الدنيا، فإن من جعل دينه عرضة للخصومات فقد أكثر التنقل، فأصبح كل يوم له وجه، وكل يوم له منهج، حسب الموجات والأهواء ومآرب الدنيا، نعوذ بالله من ذلك.

إن الموفق: هو من يُعظّم الحق، ويرحم الخلق، ويُحَبِّب الولاة للرعية، والرعية للولاة، ويَعْرِف للدولة مكانتها وهيبتها وحقوقها، فلا يزايد عليها، ولا يأخذ دورها، ولايفتئت عليها، لعلمه بحديث (عليهم - أي: الولاة-ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلتم ) فالرعية: حُمِّلوا السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، والقيام بما يُكلّفونهم فيه بصدق وإخلاص وأمانة، والولاةُ: حُمِّلوا بأعباء الولاية ومسؤولياتها وأحكامها، فتدخُل الإنسان بمهام الولاية، يُعَد تدخلاً فيما ليس من شؤونه، وفي الحديث (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وتدخُل الإنسان فيما لا يعنيه، دليل على نقصٍ في العقل، وجهل في الشرع، وحب للظهور، وقديما قيل: حب الظهور يقصم الظهور.

إن من أخطر الأمور - في نظري- المزايدة على الدولة، وأخذ دورها، أو الإساءة للرعية باسمها، لأن هذا المسلك هو أحد الأسس التي تحصل بها الفتن، وتُسبّب الفتن والانقسام، وتأمل أيها القارئ الكريم غضب النبي صلى الله عليه وسلم على ذي الخويصرة، فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأقبح الأوصاف، وتهدده بالقتل، فقال: (إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد).

فإن قيل: فماذا فعل ذو الخويصرة ليحصل على هذه العقوبة العظيمة؟ فالجواب: إنه أراد أخذ دور القيادة، وتدخل في تصرفاتها، وزايد عليها، وادعى أنه أعلم منها، وأكثر تدينا وعدلا، إذ زعم أن تقسيم المال لم يكن بالعدل، وكأنه هو الحريص على العدل، ولهذا قال للنبي صلى الله عليه وسلم (اعدل)، فمع مزايدته في دعوى التدين والعدل، فقد أراد أخذ دور الولاية في مسألة إعطاء المال، ومن أخذ دور الولاية ونازع ولي الأمر في اختصاصاته، فقد سلك منهج ذي الخويصرة، ويدل على ذلك أيضاً الأحاديث الكثيرة التي جاءت بالنهي عن منازعة ولاة الأمور بصفة عامة، فيما حمّلهم الله به، وجعله من شئونهم، كحديث (عليهم ما حُملوا وعليكم ما حُملتم)، وحديث (وألا ننازع الأمر أهله) وحديث (أعطوهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم).

وتأمل أيضاً أيها القارئ الكريم ما قاله الصحابي الجليل عبدالله بن أبي أوفى لسعيد بن جُهْمان عندما سمعه يذكر مآخذه على السلطان، تجد أن الصحابي عبدالله بن أبي أوفى تناول سعيد بن جهمان بيده بشدة، وقال له: (ويحك يا بن جهمان، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك، وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه) فقول الصحابي الجليل: (لستَ بأعلم منه)، يدل على أنه متقرر عند الصحابة عدم التدخل بشؤون الولاة وقراراتهم، لأن الشرع حمّلهم هذه المهمة، فهم أعلم بها.

وأما النصح للراعي والرعية فهو منهج شرعي، فنُصح الولاة يكون وفق قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أراد أن ينصح لذي سلطان فليأخذ بيده، ولا يُبْدِه علانية، فإن قَبِل منه فذاك، وإلا فقد أدى ما عليه)، ونُصح الرعية يكون وفق قوله تعالى (وقولوا للناس حسنا)، وقوله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).