تحتفل مُنظمة الصحة العالمية بيوم الصحة النفسية العالمي، الموافق للعاشر من أكتوبر لكل عام، تحت شعار مزيد من الفرص وزيادة والتزام عالمي للاستثمار في قطاع الصحة النفسية، فوفقا لإحصاءات هذه المُنظمة، فإن ما يُصرف على قطاع الصحة النفسية عالميا لا يتجاوز 2% من ميزانيات الدول الأعضاء بها مُقارنة بصحة الجسد، الحقيقة أنه رقم مُجحف في حق الصحة النفسية كمتطلب حياتي، لذا ذُيلت الصحة النفسية في قائمة مطالب الصحة العامة. هناك ما يقارب البليون من البشر يعيشون بأزمات نفسية عالميا، يموت منهم حوالى 3 ملايين سنويا وينتحر شخص كل 40 ثانية، والبقية تتجرع الألم النفسي، على العموم حجم الأزمة صادم ومُفزع. السواد الأعظم ممن يُعاني الاضطرابات النفسية لا يطلب خدمات الصحة النفسية نتيجة وصمة العار «Stigma» المُلحقة بالمرض النفسي والمُتمثلة في التمييز وإلصاق تصنيف مؤلم لمن يُعاني الاضطراب النفسي، نتيجة نقص أو انعدام المعلومة الصحيحة حول الاضطراب النفسي ونشأته ومساره وعلاجه، لتكتمل حلقة النبذ والإقصاء في البعد الاجتماعي للتعامل والتعاطي مع المريض النفسي في شتى جوانب الحياة، ليصل الأمر إلى التندر والتنكيت وصياغة عبارات الفكاهة حول المريض النفسي من ناحية، ومن ناحية أخرى ضعف مُخرجات خدمات الصحة النفسية، خاصة في الدول النامية والتي لا توليها الاهتمام الذي تستحقه، فلقد عجبت من ذلك المسؤول الصحي وهو يتحدث عن التقدم الصحي ووجود مراكز مُتطورة للقلب والأورام والجراحات النوعية وزراعة الأعضاء الخ. وعند الحديث عن الصحة النفسية وعلاج الإدمان «بلع ريقه» ولسان حاله يقول عن ماذا يتحدث القوم!!!

يتزامن احتفال مُنظمة الصحة العالمية بيوم الصحة النفسية العالمي هذا العام مع وجود «ضيف ثقيل» حل بالأمم وخيم في بقاع العالم، فلم يسلم من شره أحد ألا وهو فيروس كورونا المُستجد «COVID-19» والذي خلق تحديا جديدا للصحة النفسية، يُضاف لتركة من التحديات التي تواجه هذا القطاع الصحي النوعي غير المحلولة، فألقى بحمله الكبير لمزيد من الأزمات والاضطرابات والصدمات والنكبات والعواقب النفسية السيئة، ليهوي بصحة النفس والسلوك في واد سحيق!!!

هناك عبارة في كتاب اسمه «الخط» كان ضمن مناهج التعليم تقول «العقل السليم في الجسم السليم»، كتبنا العبارة عشرات المرات بخطي الرقعة والنسخ، لنكتشف مُؤخرا أنها عبارة غير صحيحة بالكلية والصحيح هو أن «الجسم السليم في العقل السليم»، غفر الله لك أستاذ أبو صالح، مُدرس اللغة العربية، فكم أهلكتنا بهذه العبارة والتي أثبتت الدراسات أنها عبارة خاطئة رغم أهمية صحة البدن، فلا صحة لبدن في عقل سقيم ولا عافية جسدية تُرجى في ظل وجود نمط صحي سلوكي مرضٍ!!!


الصحة النفسية هي حالة من التوافق الحيوي والنفسي والاجتماعي والروحي وليس مُجرد الخلو من المرض النفسي وفقا لمحكات تشخيصية وصفية، ولا يُوجد هناك حد قطعي فاصل «Cut-off-point» ما بين وجود الصحة النفسية من عدمها وإنما من خلال خط مُتصل «Continuum» تحكمه حدة الإعراض وحجم المُعاناة، يرتقي الأمر صعودا في سلم التوافق النفسي وصولا للسعادة وقمة جودة الحياة. الصحة النفسية مطلب للجميع، دونما استثناء من بداية تكوين الجنين في بطن الأم وحتى آخر رمق للحياة في الكبر، الصحة النفسية مطلب فردي وأسري ومُجتمعي ومُؤسساتي، فلا حياة بدون الحد الأدنى من الصحة النفسية وتحلو الحياة بزيادة التوافق النفسي وصولا للسعادة وقمة جودة الحياة!!!

السؤال المطروح هنا ماذا قدمنا نحن كأفراد لنكن أصحاء نفسيا؟ ماذا قدمنا كأسر لصحة نفسية أسرية يستحقها الجميع؟ ماذا قدمنا كتجمع مُجتمعي لصحة نفسية مُجتمعية، الكل ينشدها؟ ماذا قدمنا كمُؤسسات وأماكن عمل وتجمعات بشرية لأغراض مُحددة، لمكان ترفرف فيه خفوق الصحة النفسية؟ هناك تساؤل من نوع آخر «ثقيل ربما» ماذا لعلك فاعل، نظامنا الصحي فيما يتعلق بوضع خدماتك النفسية الحالي في شقها العلاجي من حيث تقييم وضعها، للارتقاء بخدمات الصحة النفسية والعلاج النفسي والتدخل المُبكر، وفقا لممارسات نفسية مهنية عالية الجودة وآمنة تصل الجميع؟ وما أنت فاعل فيما يتعلق بشق الصحة النفسية النمائي والتعزيزي، لبرامج تنموية وتعزيزية صلبة، لتحافظ على الجميع أسوياء وبصحة نفسية مُستدامة؟ وماذا ستفعل بقية القطاعات ذات العلاقة، كل فيما يخصه، لقطاع تنمية الصحة النفسية وتعزيزها؟ وماذا نحن فاعلون للاستجابة السريعة لإنذار مُنظمة الصحة العالمية؟ مجموعة تساؤلات تُطرح وتحتاج إجابة من الجميع؟ لقد نصت رؤية هذا البلد المعطاء «2030» على الجميع في ثلاثة أعمدة رئيسية «مُجتمع حيوي، اقتصاد مُزدهر وأمة طموحة»، الجميع.. مُقومات الحياة، ليشمل الأمر الصحة النفسية، ليُجسد ذلك كله في مشروع وطني يُعنى بجودة الحياة.

لتفعيل الجميع، فإن الحاجة ماسة لمشروع وطني شمولي، يستهدف الصحة النفسية في بعدها التنموي والتعزيزي والوقائي والعلاجي، لتشترك فيه كافة القطاعات، لرسم خارطة طريق للصحة النفسية، فلا حياة بدون صحة نفسية ولا صحة نفسية بدون رؤية واضحة المعالم، لأن الصحة النفسية تُصنع، فليست طارقة للأبواب ولا تحل في المرابع من تلقاء نفسها، وإنما من خلال برامج عالية الجودة وبخلفيات علمية ومهنية وتشاركية مع من سبقنا لهذا المجال الحيوي الهام، إنها صحة النفس والعقل والسلوك، الصانعة لصحة البدن وصحة المُجتمع وسلامة الأمة وعلو شأنها.