في دائرة التمثل العميق لمفهوم الحداثة نشقى بنوعيتين في محيطنا: نوعية ترفض – أصلا – هاجس المعاصرة، ونوعية تعتنق خلطا سيئا من توجهات الحداثة. وقبل أن أقدم تصوري أود أن نكون أكثر شمولية ورحابة فنخرج من دائرة الشعر إلى ساحة الشاعر، ومن التحديد الضيق إلى المعاصرة، فنتحدث عن الشاعر المعاصر، لأننا إذا اتفقنا على أن هناك شاعرا معاصرا أمسى ما يصدر عنه مقنعا مريحا لأنه حينئذ سيتدفق حيوية ومعاصرة، فالشاعر المعاصر – في تصوري وأملي ومحاولتي أن أكون – هو الفنان المعبر الذي يقف متوهجا بين واجهتين: الواجهة الأولى واجهة الجذور والأرضية، والواجهة الثانية: واجهة الامتزاج والاندماج بكل دوائر الفتح والتجريب، لأنه بالواجهة الأولى يقف على إيمان صميم بتاريخه وموروثه وقيمه، وبها كذلك يبتعد عن ذلك النزق والفجاجة المتمثلة في بتر الجذور، ودفن الموروث بشكل همجي، ولأنه بالواجهة الثانية سيحقق تحولات رائعة في الشكل والمضمون، تتمثل في فلسفة العلم الفني التلقائية، المعتمدة على الثقافة العريضة وعلى المرونة في التعامل مع الثقافات المتعددة، وتتمثل كذلك في الإسهام في قضايا العصر بالكلمة والشعور وبجدية الاحتواء، وفي التزاوج بين وهج المقدرات الشخصية، وبين الانطلاقات العالمية في مختلف الميادين. كما تتمثل في الابتعاد عن عملية الفرض والإملاء في التعبير الفني، بحيث تتشكل الوحدات التعبيرية بجماليتها وبنظامها بعفوية، وبذلك يتبين أن الشاعر المعاصر يتمتع بمنطلقات إنسانية شاملة، ويكبر الإنسان في ذاته، بحيث يتمثل العصر في ذاته وروحه بعمق وبانتماء، وبفهم لتركيبة الوجود والوجدان من جانب، ومن جانب آخر يأخذ تشكيله في التعبير واقعا متعدد الأبعاد يتجاوز التحديدات والمفاهيم المهترئة. وعندما يقف الشاعر المعاصر بهذه الشاعرية وبهذا المفهوم تسقط مجموعة من القناعات المتآكلة والمفاهيم المختلفة، لعل أقربها إلى دائرة الأخذ والعطاء في ساحتنا، قناعة مزعجة ومفهوم سخيف.

القناعة المزعجة تتمثل في أن الشاعر المعاصر ضد تاريخه وموروثه وأمته، والمفهوم السمج يتمثل في أن تحطيم النظام الشعري القديم هو بطاقة الدخول إلى المعاصرة والتجديد. القناعة هذه ساذجة جدا، والمفهوم إياه مفهوم سطحي شكلي، لأن القضية ليست قضية شكل وطريقة عرض، ولكنها قضية روح وتوجه ودم حي، وبسبب مثل هذه القناعات والمفاهيم، وقعنا في أحكام خاطئة ومجازفة لا حقيقة لها، ووقعنا كذلك في تقديم أعمال هشة على أنها أعمال معاصرة، من ذلك – مثلا – أن نرفض قراءة أديب ما أو مفكر ما، لاعتقادنا أنه ضد التاريخ والأمة، وهنا لنا أن نتخيل مدى العقم الذي سنصل إليه عندما نلغي قضية توظيف الثقافة والمرونة في التلقي والتفكير. ومثال آخر أن يعمد بعض الأدعياء إلى كتابة مقطوعة شعرية يفكك فيها نظام الشعر، ويظن أنه كذا صار حداثيا.