يقول أوليفييه روا الباحث والكاتب الفرنسي المتخصص في الشؤون الإسلامية: «يثير النقاش الدائر حاليا في فرنسا معركة كلامية بالغة العنف تتعدى النقاش الفكري ولا تتورع عن مهاجمة الأشخاص، فإلى القانون الذي يحظر ارتداء الحجاب وإبعاد الدعاة عن فرنسا، تضاف إلى مئات الآراء الحرة والمقالات الافتتاحية في الصحف وعدد كبير من الكتب الأكثر رواجا، التي سرعان ما انحرفت إدانة الأصولية فيها نحو الهجوم المنظم على المسلمين والإسلام بوجه عام».

يتضح من حديث أوليفييه روا، وهو الباحث المتعمق فيما يخص المهاجرين المسلمين في فرنسا، أن مسألة الهجرة أصبحت ملفا مقلقا يمس الهوية الفرنسية، فلم يعد لدينا شك، وتحديدا بعد تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة، أن الهوية الفرنسية تعيش أزمة وجودية مصدرها الإسلام، فالإسلام يبدو من وجهة نظر الرئيس الفرنسي وكأنه يطعن في الهوية الفرنسية، مما يستدعي تعبئة شاملة للدفاع عن الهوية والقيم العلمانية التي تمثل الهوية الفرنسية، التي بلغت درجة من التأزم لحد أن فتاة متحجبة في أحد المرافق العامة قد تسبب بالقضاء عليها.

من وجهة نظر ديموغرافية يعود وجود الإسلام في أوروبا اليوم، نتيجة هجرة إرادية كثيفة قادمة من بلدان مسلمة في سبيل الحصول على فرص العمل، وفي فرنسا بلغ عدد المسلمين ستة ملايين، وهو عدد كبير نوعا ما، ولم يكن السماح لهذا العدد الكبير من المهاجرين اعتباطيا، فقد كان السماح بالهجرة الجماعية يسير ضمن خطة مسبقة يمكن من خلالها استيعاب الثقافات المهاجرة ضمن إطار الهوية الفرنسية، أي أن المفترض أن تؤدي عملية الاستيعاب إلى التخلي عن الثقافة الأصلية وتبني الهوية الثقافية المهيمنة الجديدة، وسوف تحمل هذه العملية شعارات براقة كالتسامح وحوار الأديان واحترام الأقليات والتعددية الثقافية، ولكن المصطلح العلمي المناسب لها هو عملية التثاقف.

عند الحديث عن التثاقف، يتحتم علينا التطرق لنظرية عالم الاجتماع الفرنسي روجي باستيد حول التثاقف الذي ينشأ عن احتكاك ثقافتين مختلفتين، في اتصال مباشر ومستمر، ما ينتج عنه تغييرات في النمط الأصلي للثقافة في أحدهما أو فيهما معا، فقد جعل باستيد ثلاث وضعيات لحدوث التثاقف:

الحالة الأولى هي المثاقفة العفوية التي يكون فيها التواصل حرا وطبيعيا، ولا تكون موجهة أو مضبوطة، ولا تخضع للإكراه أو التوجيه. الحالة الثانية حسب باستيد، هي المثاقفة القسرية أو الإجبارية، كما يحدث في ظروف الاستعمار والعبودية، حيث يسعى المستعمر لتغيير ثقافة الشعوب الخاضعة للاستعمار على المدى القصير. والحالة الثالثة والهامة هي عملية المثاقفة المخططة أو المراقبة التي تحصل نتائجها على المدى الطويل.

من خلال المثاقفة المراقبة تتعامل كثير من الدول اليوم مع حالات الهجرة والمهاجرين، حيث تتم مراقبة المهاجرين للتعرف على مدى استيعابهم للقيم الجديدة للثقافة المهيمنة. فالثقافات الأجنبية داخل البلد المضيف محكومة وترضخ للمراقبة وفق منهجية علمية غير اعتباطية من خلال تعريضها لعوامل عديدة تؤدي إلى اضمحلالها بتعاقب الأجيال داخل بوتقة الثقافة المهيمنة.

في الحالة الفرنسية، يبدو أن عملية المثاقفة المراقبة قد فشلت في إدماج المهاجرين المسلمين، وجعلهم يعتنقون الهوية الجديدة، ما أدى لحدوث انفصال ثقافي، أبرز مظاهره تمسك المهاجرين بهويتهم الأصلية، وترك هوية البلد المضيف، وحتى مع الاستخدام التعسفي للعلمانية لا زال الدين الإسلامي في فرنسا يحدد سلوك أتباعه، ويفرض وجوده في الفضاء العام داخل المجتمع الفرنسي.

يتضح أن الهوية الإسلامية في جوهرها غير قابلة للتدجين، وتحديدا في المجتمع الفرنسي الذي لا تزال المسيحية تمثل جزءا من هويته وقيمه رغم كل القوانين التي ترفض مراقبة العامل الديني للفضاء العام، وهذا قد يفسر حالة التشنج التي تظهرها الحكومة الفرنسية بين الحين والآخر ومنذ عقود ماضية تجاه المهاجرين. يقول أوليفييه روا في كتابه الإسلام والعلمانية: «إن أكثر الناس عداء لوجود المهاجرين وللإسلام في آن هم أولئك الذين يرون أن الإرث المسيحي يشكل جزءا من الهوية الفرنسية والأوروبية، وبناء على ذلك يرون أن الإسلام غير قابل للاندماج حتى في شكل علماني».

انعزال الأقليات المسلمة التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي في خطابه الأخير، ردة فعل طبيعية تجاه التهميش والإقصاء والتضييق الذي يتعرضون له في المجتمع، فالانعزال سلوك جماعي متوقع يعكس رغبة في تعزيز الهوية وحمايتها من الآخر، عندما تشعر أن هذا الآخر يتدخل في معتقداتها وقيمها الدينية.